دلف إلى بيته من الباب الخلفي. لقد حرص على أن يكون لبيته بابان، واحد يستقبل وآخر يودّع، وقد حرص عندما خطرت له فكرة البابين هذه، على أن يكون الباب الخلفي مفرًّا له عند الحاجة القصوى او المداهمة المتوقّعة. فتحت زوجته عينيها لتفاجأ به يقف قريبًا من سريرهما المشترك الخاص في غرفة نومهما ذات الأثاث المتواضع البسيط. سألته بعين تملؤها الحيرة. ما الذي حدث لك.. أرجو ألا تكون قد تعرضت إلى ما يُضايق ويزري. انتظرت زوجته أن تتلقّى منه إجابة غير أن ما حدث هو.. أن الصمت بقي رائنًا على الغرفة ومَن فيها.. هو خاصة. فماذا سيقول لزوجته.. أيقول لها إنه اعتاد على تلقي الاهانات من ذلك المحقّق المتسلط عليه خاصة؟.. أم يقول لها إنه ابتلع الإهانة تلو الإهانة مِن أجلها ومِن أجل الأولاد.. اولادهما الثلاثة النائمين في الغرفة الفقيرة الثانية؟.. أيقول لها إن المحقّق انذره خلال تحقيقه معه.. مهددا إياه بانه سيقطع رزقه وسيرمي به إلى الكلاب تنهش لحمه ولحم أحبائه القابعين هناك في البيت؟.. لفت صمته اهتمام زوجته أكثر فأكثر. فتوجّهت كعادتها عندما تشعر بأن الدنيا وذاك المحقق قد ضيقا عليه.. توجهت إلى المطبخ المتواضع الصغير لتغلي له فنجان قهوة عربيًا أصيلًا يُروّق به راسه.. أما هو فقد كان يفكّر فيما تلقّاه من اهانات تهدم الجبال قبل الرجال.. "لو توقف الامر على الاهانات.. لهان عليه الامر ..أما الآن فإن ذاك الفظّ الغليظ ذلك المحقّق البغيض يهدده بقطع رزقه وتجويع أبنائه وزوجته الطيّبة الوفية المخلصة. فماذا بإمكانه أن يفعل؟ أيخبرها بما حصل له في غرفة التحقيق ..أم ماذا يفعل.. لو اخبرها بالحقيقة الواقعية.. حقيقة ما حدث له مع ذاك المحقق، فإنه سيستهين بوجوده ولن يكون الرجل الذي أراد ان يكونه في نظر الجميع.. في مقدمتهم زوجته وابناؤه الثلاثة.. فماذا بإمكانه أن يقول لها؟
بينما هو يفكّر فيما حدث له، دخلت زوجته غرفة نومهما. وضعت الصينية وعليها فنجانا قهوة ورثهما هو ذاته عن جده الثائر الابدي والشهيد الشاهد على فترة مُشرقة من تاريخ البلاد.. رغم الظلام المُحدق حاليًا. جلست إلى جانبه حتى لامس دفئُها برودته وهمست بصوت أرادت له هو فقط أن يستمع إليه:
-ماذا بك.. هيا نشرب القهوة.
سكبت القهوة الحيّة الحارة في الفنجانين على الصينية وقدمت له الفنجان الأكبر. لقد اعتادت على أن تقدّم له القهوة في ذاك الفنجان، وأن تشرب القهوة في فنجان آخر اصغر قليلا.
أدنى فنجان القهوة من فمه وهو يفكّر فيما ستصير إليه أموره وأمور صغاره الثلاثة أولًا وامورهما.. هو وزوجته ثانيًا، فاذا ما قال لها إنه صمت وقبل الاهانات المتلاحقة من ذلك المحقّق المتسلط أو المسلّط عليه من آخرين. حرصًا منه على رزقهما وأبوابه المشرعة حتى الآن، فمن المتوقع أن يسقط أولًا في نظر ذاته وثانيًا في نظرها.. نظر زوجته المسالمة حينًا المتمرّدة آخر. اخفض رأسه نحو أرضية غرفة النوم. غرس عينيه في هناك فيها عميقًا وهو يقلّب الأمور على كلّ وجوهها المتوقعة.. هو ليس نذلًا وليس واطيًا.. وإنما هو سليل عائلة عريقة أضحى جده منذ فترة بعيدة عنوانًا لشهامتها ونخوتها. خلال تقليبه الامور على وجوهها المختلفة بين الاقدام والاحجام.. بين التردّد والشجاعة.. كان لا بدّ له من أن يتحدّث إليها بعكس ما حصل.. أن يقول لها إنه هو مَن أهان ذاك المحقّق اللعين، وإنه هو أيضًا مَن قام بتوجيه التهديدات إليه مُنذرًا إياه بالثبور وعظائم الأمور، وعائدًا إلى ذكرى آبائه واجداده المناضلين الميامين. وشرع يتحدّث إليها مُمهدًا بقوله.. لا تعتبي عليّ.. حاولي أن تكوني ام الأولاد الثلاثة الذين أعزّهم معزتي لبلدي وروحي. ودون أن ينتظر اجابتها ابتدأ في حكايته المتخيّلة مع ذلك المحقق. قال:" عندما دخلت غرفة التحقيق لفت نظري سلاح مركون قريبًا من طاولة التحقيق. لم يطلب المحقّق منّي الجلوس. وشرع في توجيه الاهانات لي لآبائي وأجدادي. حاولت أن ابتلع الإهانة، إلا أنها لم تنزل لي من زور. أردت أن اشتمه بأقذع السباب غير أنني تردّدت. كان لا بدّ لي بدايةً مِن أن أكون قويًا. مِن أن أحمله على تبادل الأدوار فيما بيننا، فماذا تعتقدين أنني فعلت". هزّت زوجته رأسها بريبة ممزوجة بالإكبار.. ماذا فعلت؟.. تساءلت.. فرفع راسه حتى طاول سماء الغُرفة. قال بعد صمت مهيب: فاجأته بحركة غير متوقّعة.. امتشقت السلاح المركون على حافة الطاولة وهتفت به. سلّم أمرك لي. كانت المباغتة أكبر مما تخيّل و.. حصل. ورأيت الخوف يطلُّ من عينيه الوجلتين. تناولت القيد الحديدي من درج طاولته وأحكمت قفله على يديه الاثنتين.. وأنا أقول له انت لا تعرف من أنا.. أنا ابن الاكابر. أنا ابن مَن دوّخوا المنطقة دون ان يعبئوا بما قد يُكلفهم ذلك من ثمن. عندها رجاني أن أفك القيد من يديه، فأخذت منه وعدًا بان يخلي سبيلي مقابل عفوي عنه وإزالة القيد من يديه.. اثار ما قاله الزوج.. زوجته فصفّقت بكلتا يديها وهي تقول له:" إذا كان هذا ما فعلته وما نجحت به.. لماذا أراك حائرًا.. حزينًا إلى هذا الحدّ؟.."، هنا كان لا بُدّ له من أن يتابع ما ابتدأ به قال:" ابن الحَرام. نقض وعده لي بسرعة البرق وقال لي إنه سيتنازل عن حقّه الشخصي وعمّا فعلته به يداي.. أما عن الحقّ العام فإنه لا يستطيع أن يتنازل". "وما هو الحقّ العامّ". سألته زوجته بلهفة خائفة. فردّ بشمم "أن يتسبب في قطع رزقنا". وتابع يقول:
-تعلمين أن قطع رزقنا يعني اغراقنا في بحر الفقر.. يعني معاناتي ومعاناتك.. ومعاناة صغارنا الثلاثة..
هنا أشرق وجه الزوجة وهي تربّت على كتف زوجها البطل:
-خيرًا .. فعلت .. كنت رجلًا حقيقًيا.. رجلًا ملء ثيابه. لم تخفض أاسك لذاك المحقّق السيء .. وانما لقنته درسًا لا ينساه.. أما فيما يتعلّق بقطع رزقنا.. فأنا كفيلة بأن اسدّ الغيبة. سأتعاون معك في السراء كما تشاركنا معًا في السراء.
قالت الزوجة الوفية كلماتها هذه وهي تربّت على كتف زوجها الجريء الشجاع. علامة التقدير والرضا. وهنا خطر للزوج. أن يقلب كذبته إلى حقيقة.. واقعية.. وتوجّه إلى الباب الامامي من بيته ذي البابين. وخرج مندفعًا إلى الشارع وفي خاطره أن يلقن ذاك المحقّق السيء المستبد درسًا لا ينساه أبدًا.. درسًا في الجرأة والشجاعة.