لماذا نُحيي ذكرى النكبة كل عام؟

ساهر غزاوي 
نُشر: 01/01 19:25

نعم، هذا السؤال، وسواه مما يثار حول إحياء جرح مضى عليه سبعة وسبعون عامًا، يدعونا إلى ما هو أبعد من اجترار الحزن، إنه محاولة لفهم ما يجعل هذا الحدث عصيًا على النسيان، حاضرًا في الوجدان كما في الواقع. ففي الخامس عشر من أيار، لا تُستعاد النكبة كذكرى عابرة، بل كواقع مستمر يعيد إنتاج ذاته بأشكال متغيرة، إذ لم تكن لحظة طارئة في التاريخ، بل محطة تأسيسية لمشروع استعماري لا يزال قائمًا حتى اليوم. ومن هنا، فإن إحياء الذكرى ليس فعلًا رمزيًا، بل مقاومة ووعي تحرري يؤكد أن الحقوق لا تُنسى، وأن استعادة الرواية الفلسطينية ضرورة لبناء خطاب فاعل يعيد تشكيل أدوات المواجهة.
اليوم، ومع تصاعد المجازر في غزة، والحرب على الضفة، وسياسات التهجير التدريجي في الداخل، تظهر النكبة كواقع مستمر. من هدم البيوت إلى تفشي الجريمة وفوضى السلاح، باتت أدوات الإقصاء جزءًا من نظام يضغط على الفلسطينيين ويدفعهم لترك أماكنهم. فلم تعد النكبة مجرد اقتلاع أول، بل فعل مستمر، أكثر تعقيدًا وتأثيرًا في تفاصيل الحياة اليومية.
نكبة عام 1948 كانت نتاج تحالف بين الحركة الصهيونية والاستعمار الأجنبي، وسط تواطؤ دولي وخذلان عربي وإسلامي، لإحكام السيطرة على أرض فلسطين. وقد تسببت في تهجير جماعي للفلسطينيين، وتدمير واسع لقراهم ومدنهم، وارتكاب مجازر هدفت إلى محو معالم الحياة الفلسطينية لصالح مشروع استيطاني قائم على الطرد والإحلال. واليوم، ما زال ملايين الفلسطينيين يعيشون في الشتات، بينما تبقى القرى المدمرة حاضرة في الذاكرة والهوية. 
في كل مناسبة يُحتفى فيها بما يُسمى "استقلال إسرائيل"، تُعاد إنتاج السردية الإسرائيلية التي تُمجد "النجاح" الصهيوني، وتُغيَّب الرواية الفلسطينية التي تروي قصة اقتلاع وتدمير شعب. ومنذ تأسيسها، سعت إسرائيل لتصدير نفسها كـ "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، في محاولة لطمس واقعها الاستعماري القائم على الإقصاء العرقي والاستيطان. وقد لعب الإعلام الإسرائيلي دورًا محوريًا في تلميع هذه السردية، من خلال مشاهد احتفالية تُجسد "الحداثة والديمقراطية"، بينما يتم إخفاء التاريخ الدموي الذي رافق نشوء الدولة.
وهذا ليس مستغربًا، فمن طبيعة الاستعمار أن يُشيّد حياة فوق أنقاض الآخرين، وأن يسعى لنزع الشرعية عنهم وإسكات روايتهم عن ماضيهم وما تبقى من حاضرهم. وفي حالة النكبة، يُقدم الفلسطيني كـ "آخر" مُتربص، وتُفصل نكبته عن السياق التاريخي الذي أنتجها، ويُروج لها داخل المجتمع الإسرائيلي كأنها قصة معزولة لا صلة لها بالمشروع الصهيوني، الذي شكل في الحقيقة السبب المباشر لوقوعها. وهذا ما يجعل الإسرائيليين ينظرون إلى النكبة وحق العودة كتهديد وجودي، ويجعلهم يرون في الحق الفلسطيني خطرًا على وجودهم.
ويزداد هذا الإنكار عمقًا حين نعلم أن نحو نصف الإسرائيليين لا يعرفون حتى معنى مصطلح "النكبة"، رغم أنها الحدث الفاصل في تاريخهم هم، لا تاريخ الفلسطينيين فقط. لذلك، سعت إسرائيل منذ قيامها إلى إنكار النكبة، ومحاولة طمس كل ما يدل على وقوعها. كما أن أغلبية الإسرائيليين يعارضون حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، انطلاقًا من قناعة بأن هذا الحق يُنذر بزوال إسرائيل، أو بالأحرى بزوال "الدولة اليهودية"، لما يحمله من تهديد لهوية الكيان ذاته.
وعلاوة على ذلك، هناك من يتعامل مع الفلسطينيين وكأنهم غير موجودين أصلًا، ولا يملكون أي حق في الوجود أو الاعتراف. وقد تجسد هذا النهج بوضوح في تصريح وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، الذي أنكر صراحة وجود الشعب الفلسطيني، وكذلك في تصريح وزيرة البيئة، عيديت سيلمان، التي ادعت أن "لا وجود لشعب يُدعى الشعب الفلسطيني". نحن إذًا أمام إنكار يتجاوز الأرض، ليطال الإنسان نفسه، وتاريخه، وحضارته، وسرديته الجماعية.
من هنا، يتضح أن ما نواجهه هو مشروع إنكار شامل: إنكار للحق، وللهوية، وللحكاية الفلسطينية، بل وللوجود ذاته. ويجد هذا المشروع دعمًا من ماكينة إعلامية هائلة تروج لإسرائيل كدولة "تدافع عن نفسها"، بينما تُقصى الرواية الفلسطينية أو تُختزل في صور عنف مبتورة عن سياقها التاريخي والسياسي. هذا الانحياز الإعلامي لا يقتصر على تزوير الوقائع، بل يساهم فعليًا في تعزيز البنية الاستعمارية الإسرائيلية، التي تواصل نفي الفلسطينيين وطمس حضورهم.
وفي السياق ذاته، شهد العام الحالي تصعيدًا خطيرًا في سياسات القمع ضد الفلسطينيين في أراضي 1948، حيث تمارس السلطات الإسرائيلية ضغوطًا متزايدة لتقليص الحضور الوطني الفلسطيني في الفضاء العام. ففي مسيرة العودة السنوية التي كان من المقرر تنظيمها في أراضي قرية كفر سبت المهجرة، فرضت الشرطة الإسرائيلية قيودًا غير مسبوقة، من بينها منع رفع العلم الفلسطيني، وتحديد عدد المشاركين بـ 700 شخص فقط. ويبرز هنا سؤال جوهري: ماذا يعني أن يُمنع لاجئ من زيارة قريته المهجرة؟ وماذا يعني أن يُجرم رفع رمز يُجسد انتماءه وحقه في الوطن؟
ختامًا، النكبة ليست مجرد ذكرى نتذكرها، بل هي جزء من مشروع استعماري مستمر، يتبدل فيه الشكل، ولكن يبقى الهدف ثابتًا: الإقصاء والإحلال. وما نشهده اليوم من استمرار للممارسات الاستعمارية يفرض علينا إعادة بناء خطاب فلسطيني جديد، لا يقتصر على الرمزية أو الحنين للماضي، بل يتحول إلى فعل حقيقي يقدم رؤية واضحة وقوية تسهم في بناء المستقبل.
إن استمرار الرواية الفلسطينية ليس مرهونًا فقط بالحفاظ على الذاكرة، بل بقدرتها على التكيف مع أدوات العصر واستخدام كافة الإمكانيات المتاحة، من الإعلام والقانون إلى الفعل الجماعي. فالسؤال اليوم لم يعد ماذا جرى؟، بل ماذا نفعل بما جرى ويجري؟ في مواجهة هذا المشروع الاستعماري المستمر.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة