(1)
اين انت يا حبيبي؟
ارتفع صرير الجنازير المحتكة بالأرض وبجسد منتهى.
وضربت الهراوات رأس حباب.
وقف من قهره وأعلن انه في البدء خلق الله الموت، وفي اليوم الثاني استراح. وبعدها لم يظهر ابدا، فقد التهمه الحزن على الصبيتين منتهى ورحاب.
لم تقم الأمم المتحدة لجنة تحقيق لسبب لا تعلمه الا عواصم الضباب.
رأيت عيني حبيبي تتقدان كالجحيم، واقفا على راس غيمة شاهقة، ورأيت الى جانبه دير ياسين والصفصاف ومعلول والبروة وبيسان واخواتهن من العذارى المغتصبات ساجدات له. وفي وسطهن فانتوم بلا جناحين يلفظ انفاسه الأخيرة... وفي مكان ما تحت الأرض حكم على الشيوخ ان يستريحوا!!
من يومها احببته، وتيقنت مع الأيام من حبي له. كم يعذبني بعدك يا حبيبي.
حبيبي لم يهرب كما تحدثوا في الأساطير الجديدة، حبيبي عانق الموت، حبيبي لن يموت ما دمت انا حية. ما دامت الأرض تنبت جيلا وراء جيل وارثا تاريخ شعب لا يقهر.
ايتها الدنيا...
المصلوبة على صليب المسيح ابن مريم
ايتها الدنيا
ها انا ابلغك وامري لله
بأن صليب ابن مريم وابن يوسف وابن البشر وابن الله، ذلك الصليب المعروف للكبار والصغار، قد أصبح مسوسا ولا ينفع لصلب شعبك يا فلسطين، ولم يعد ينفع حتى طعاما للنيران.
افعل يا شعبي ما لم يفعله المسيح.
اقذف بصليبك الى النار.
في عصرنا لا يصلب الا الصامتون، الخنوعون والمدعون.
صلب المسيح عن كل البشر.
كي لا يصلب أحد بعده.
وهو لذلك اصبح مسيحا مبشرا بالسلام والحب للبشر.
انا لم اشق كسيزيف منذ الأزل بحكم الآلهة عليه بان يدفع صخرة كبيرة لقمة الجبل، وان تسقط قبل ان يوصلها للقمة، ليعود يدفعها من جديد.
عصفت بشعبي اضعاف المشاق التي عصفت بسيزيف.
وكان كلما حمل صليبا يقذف به الى النار.
(2)
- انت مقتول!
- ها انا ارفع رأسي عاليا فوق الأرض.
طلقات متقطعة لمدفع رشاش. صحت:
- أصبحت قامتي أعلى وذراعي أطول.
صاح جندي:
- لم نستعمل بعد كل ما نملك.
جعر صوت بعيد:
- هكذا اعتقد هولاكو ايضا يوم أخبروه ان بغداد لا تزال مركز الدنيا!
(3)
برزت عيناه عبر الظلمة تتقدان بنور غريب، يجمع بين القوة والحذر، الذكاء والحقد، الكراهية والتعقل، الرغبة والصبر والحب للأرض المصلوبة.
قالت منتهى:
- انه فارس احلامي.
واغمضت عينيها.
(4)
أين انت يا حبيبي؟ ها انا ابكي لوحدي منتهى وحباب. قبلهما بكيت رجاء، وقبل رجاء بكيت وبكيت قوافل من الشهداء وعندما جف دمعي بكى قلبي دما.
سألتني حباب:
- لماذا يقتلونني؟
ونامت فوق ذراع منتهى.
قال الصحفي:
- كانت طفلة وديعة حين ولدت في ضمير فلسطين!
(5)
صاح شيخ:
- اجتزنا كل معابر الألم
فتشتنا نقاط العذاب
لم يبق فينا موضع لا يتألم!
فهل نصمت بعد اليوم؟
ضم ابنه الشاب قطعة باردة الى صدره ونظر لأول الدنيا. قال واضعا اصبعه على مكان ما بالخريطة:
- هنا يا أبي تقع فلسطين.
واصبحت القطعة حارة.
عقب مذيع الراديو:
- وانطق الناس يبحثون عن الطرق ويجندون الوسائل لوضع الحق في نصابه.
(6)
أقسم.
بكل المرارة الممزوجة بالدم.
بكل الحقد المتفجر بالصدر.
بكل القهر.
بكل مآسي الماضي والحاضر
المعروفة والمجهولة
ان لا أقرب النوم ابدا من عيني
أن اسهر.
أطرد كل الأحلام
كي يبقى الواقع ممزوجا بالأعماق.
كي يبقى الجرح ينزف..
أجل ينزف
حتى أذكر دوما
ان السكين ما زال مشرعا في كف آثم.
حاشية:
انطلق الرصاص فسقط حبيبي ميتا.
بعد لحظات قام حبيب وأنشد نفس الكلمات بصوت أقوى.
حبيبي لا يموت
حبيبي مسيح فلسطين الجديد.
(7)
قال الراوي:
- "يوم قتلت منتهى ولدت فلسطين. ويوم قتلت حباب ولد الحب"
واحترت ايهما احب؟
فلسطين ام الحب؟
فاندمجت بالحيرة واحببت فلسطين والحب!!
(8)
فتحت منتهى عينيها للمرة الأخيرة وقالت:
- نحن لا نطلب حق الغير.
هو حقنا ما نطلب
او بعض الحق!!
(9)
- نقلنا لكم الحضارة!
- لا شيء يعدل الوطن.
- أضأنا دنياكم بنورنا المشرق؟
- متفجراتكم المضيئة بعثرتنا أشلاء.
- هي الحضارة ايها الأغبياء!
- هولاكوا ايضا ظن انه حملها الينا.
- حضارتنا متطورة أكثر وامكانياتنا اكثر اتساعا؟
- هذا ما اخبرتنا به منهى، اما حباب فكانت صغيرة جدا عن الادراك.
(10)
- اكبر يا حبيبي اكبر
اكبر لتجيء الي على ظهر سحابة
سأشير بأصبعي اليك واهتف:
- هو ذا حبيبي
يجعله الموت أكبر
يجعله الموت أصلب
يجعله الموت أقوى
وتتصادم الفانتومات والسكايهوكات
وعى الأرض يسقط السلام
وفي الناس منتهى وحباب.
(11)
قالوا:" أموت لتعيش انت". ولكني أقول لن أموت. فأنا أمك الارض التي تحبك. وبدوني ماذا يبقى لك؟ وانت لن تموت لأنك حبيبي الذي يتجدد دوما بمن يولد بعده.
انظر يا حبيبي لترى أحبائي المضطجعين فوق صدري وعلى ذراعي من دير ياسين والصفصاف وكفر قاسم، مثل منتهى ورجاء وحباب، والأحباب السابقين واللاحقين، الذين سقطوا والذين لم يسقطوا بعد.
هم ملح الأرض، بدونهم أذوى.
هم أحبائي يعانقونني ليذوبوا في صميمي.
وتبقى انت يا حبيبي متجددا في القلوب.
وكل عام وانت ومنتهى وحباب بخير حيثما كنتم!!
********
ملاحظة: منتهى وحباب من اوائل ضحايا انتفاضة الحجارة الفلسطينية
(هذا النص كتب في تلك الفترة ونشر وقتها في جريدة الاتحاد الحيفاوية، ووصفه أحد النقاد ب "قصة جو")