قصّة قصيرة: الهواتف الذكيّة| بقلم: نعمان إسماعيل عبد القادر

نعمان إسماعيل عبد
نُشر: 01/01 19:12,  حُتلن: 12:21

الطفلُ ينتفض، وهو متمدّد على أرضيّة غرفة الضّيوف، انتفاضةَ دجاجةٍ ذُبحت قبل لحظات.. صياحُهُ يكادُ يصمُّ الآذانَ.. أطرافُه المتراقصةُ، حركاتهُا السّريعةُ تشبهُ إلى حدٍ ما عجلاتِ قطارٍ يسير بسرعةٍ فائقةٍ إلى وجهةٍ غير معلومةٍ وفُقدتِ السّيطرةُ عليهِ.. والدُهُ جلس منكمشًا ينظرُ إليه دون أن يحرّكَ ساكنًا فيما الأمُّ واقفةٌ تتفرّجُ مكتوفةَ اليدين ثم تقولُ بكلِّ بساطةٍ وبراءةٍ: "هذهِ هيَ الحالةُ التي يُصابُ بها هذا الطفلُ البريءُ كلَّ يومٍ.. في النهار وفي منتصف الليل.. وهذا هو مفعولُ السّحر القويّ الذي صنعته لنا تلك الش.....، حماتي الملعونةُ التي تطاردنا في كلِّ مكانٍ ولا تريدُ أن يهدأَ لنا بال، لقد أمسكنا بها مراتٍ عديدة وهي تدخل بيتنا وتضع السِّحر فيه في جوف الليل وفي أطراف النهار مرّاتٍ ومرّات".
"عن أي سحرٍ تتحدّثين أيتها الشرقية الحمقاء؟" قالَها في نفسه، بعد أن أحسّ بقشعريرة وكاد ينفجر غضبًا ثم هتف قائلا: "وهل حقًّا هناك سحر في الدنيا؟ لماذا لا يعرفه العالم المتحضّر؟ لماذا لا ندرس القضية قبل أن نصدّق ما يقوله المشعوذون؟".
هتفتْ في وجههِ، وبغضب رمقته، وهي تلوّح بيدها اليمنى بهاتفها الذكيّ: "ألا تؤمن بالقرآن؟ علينا وعلى كل واحد فينا الإيمان بما أنزل الله، لأن السحر ذُكر في القرآن الكريم.. السّحر موجود منذ الأزل. حين تأتيه الحالة في الليلة نقرأ عليه القرآن ثم يهدأ. أليس هذا دليلا على أنه مصاب بالسحر؟ لقد وضعت "تلك التي لا تُسمى" السحر في مصران خروفٍ كيف تفرق بيننا".
الضيف، تجاهل كلامها وحدّق في وجه الطفلة الصامتة كالخرساء التي تجلس على يساره وهي تحتضن بكلتا يديها دميتها الصغيرة متأمّلا في وجهها، والصياح يتّصل ويشتدّ، ثم صاح بلهفة وبصوت عالٍ وهو يشير بسبابته إلى النافذة المفتوحة: "ياااي ما أجمل هذا العصفور! أنظري يا شروق! أنا أحب هذا العصفور. وأحبّ كل العصافير. هل تريدين أن أُحضر لك عصفورًا جميلاً مثله ليغنّي لك كلّ صباحٍ وكلّ مساء؟
صمْتٌ عجيب ساد في ذلك المكان للحظات.. الصياح الشديد توقف بشكل منقطع النظير.. الأطراف المتحركة كعجلات قطارٍ يسير بسرعة فائقة توقفتْ تمامًا. نظراتُ الطفل الحادّةُ الموجهة إلى سبابة الضيف، وهو رافع رأسه قليلا، أثارت دهشة كل الحاضرين في ذلك المكان.
كم نحتاج إلى التفكير مليًّا في تلك المواقف والبحث عن حلول بديلة لمشاكلنا المستعصية! وما أحوجنا إلى إدراك ما يحسّه مثل هؤلاء الأطفال ومشاركتهم إحساسهم؟ كم مرّةً تتحدّثان مع هذا الطفل وتعانقانه؟ لماذا نلقي دائمًا اللوم على السّحرة والمشعوذين؟ يا جماعة! طفلكم مصابٌ بسببكم بالتوحّد.
ثمّ أمسك بيدي الطفلة وراح يرقص معها ويغنّي: "ما أروع هذا العصفور! بدنا نغني لأمير.. والشاطر فينا مسرور..."
الطفل ذو الأربع سنوات، الذي كانت أطرافه الأربعة حركاتهُا السّريعةُ تشبهُ إلى حدٍ ما حركة عجلاتِ قطارٍ ، وقف على قدميه.. يداه تشابكت مع يدي الضيف وأخته، والرقص استغرق بضعة دقائق حتى سُمعت ضحكاتُهُ عاليةً تتناغم مع إيقاع صوت خطوات أرجل الراقصين.
لحظات مضت، وأمير "الحفلِ"، حُمل على كتفِ ضيفٍ لم يره قط في حياته من قبل. راح يقصّ عليه حكاية نسجها على الفور من خيوط خياله، تتحدّث عن "الطائر الأصفر والسمكة ذات الجناحين الكبيرين"، منطلقًا به نحو سيارته طالبًا من الحضور مرافقته على الفور.
المتنزه الأقرب كان يعج بالمتنزهين وعائلاتهم. بعضهم منشغلون بهواتفهم الذكيّة والآخرون منغمسون في شواء اللحم على الفحم، والأمير، الذي كانت حركاته تشبه إلى حدٍّ ما حركة عجلات قطار، لم يكد يرى المكان بظلال أشجاره وحركات مراجيحه، ونبض الحياة فيه، حتى شعر بأن أبواب الدنيا فُتحت له على مصراعيها، ثم صار بين الأطفال الذين يتقاذفون الكرة، تعانق روحه أرواح الملائكة.
وراح الضيف يحدثهم قائلا: "أطفالكم أمانة في أعناقكم. والعلاج بين أيديكم. عليكم أولا الاهتمام قدر الإمكان بأطفالكم، لا بهواتفكم الذكيّة.. تحدّثوا معهم يوميّا، وناقشوهم! ولا تتجاهلوا محاولاتهم حديثهم أو صدّهم بسبب كثرة أسئلتهم! حين تُسألون عليكم أن تُلقوا جانبًا كل شيء تحملونه بأيديكم، مهما كانت أهميته! بالإمكان علاج هذه الحالة بالغناء أو بالرقص أو بالقصة أو بالتنزه حتى يتغيّر المزاج وتتغيّر الأحاسيس من السيء إلى الأحسن. قضاء وقت طويل في البيت يجعل الأطفال يحسون بالكآبة. الحياة تغيرت. والدنيا تغيّرت. بالماضي كنّا نلعب تحت الأشجار، ننبش التراب، ثم نتسلّق أغصانها ونختبئ بين أوراقها، واليوم لا صرنا نعيش صامتين نقضي ساعات طويلة وعيوننا ننظر في شاشات الهواتف الذكيّة عديمة الإحساس، ونقبع في صناديق اسمنتية ذات جدران صمّاء يقضي فيها الأطفال معظم أوقاتهم دون أن ننبس بكلمة".
نظرت إليه نظرة ازدراء خاطفة، ثمّ راحت أصابعها تداعب هاتفها الذكيّ، وقالت في نفسها: "من أين جاءنا هذا الذي يظن نفسه فيلسوف زمانه؟ ليته يتعرّف على حماتي التي تعلّم الناس السّحر وتحركهم بأطراف أصابعها وهم غافلون!"
 

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة