الشعر هو كلام موزون مقفى، والحديث منه موزون غير مقفى أو مع قافية متغيرة وغير رتيبة. أما ما يسمى بالشعر الحر فهو بدون وزن ولا قافية وهذا النوع منه فتح الباب على مصراعيه لفوضى لا نهاية لها ولخطر يهدد أجمل ما في اللغة العربية وهو الشعر. وأعطى مجالاً واسعاً للمتسلبطين على الشعر من ناحية، وللمخربين ممن يدّعون النقد والتحليل من ناحية ثانية لينشروا سمومهم ورذائلهم.
نظام أيوب شاعر لا يحترف الشعر مع أنه يجيده ولديه كل الإمكانات أن يبدعه. بدأ حياته مشتتاً بين الشعر والمسرح والموسيقى والغناء وكلها زوايا لقلعة شامخة اسمها الشعر. فالشاعر هو ممثل وموسيقي ومغني ولكنه في نفس الوقت ليس واحداً منهم، لأنه كل هؤلاء.
بين يدي ديوانه "خربشات على جدار المعبد" لا أدري كيف حصلت عليه ولا أعرف تاريخ صدوره. ولا أدري أيضاً أهي شطارة الشاعر أم إهمال الناشر الذي نسي تسجيل اسمه وتحديد سنة الإصدار.
لا شك أن "الخربشات" جاء بعد "الكافر"، ديوانه الأول. ولا أدري إن كان له إصدارات أخرى. لم أحاول الاتصال به والاستفسار منه حتى لا أكسر خلوته التي أخال أنها ستتمخض عن إبداع.
نظام أيوب شاعر يمتلك نواصي القصيدة الجيدة لأنه يمتلك المقومات والأدوات التي لا تُكتسب وأهمها: الصدق، الشاعرية والموهبة. القصيدة، أي قصيدة، لا تكون جيدة إن لم تكن مسبوكة بالمشاعر الصادقة ومليئة بالموسيقى التي توفق بين المعنى والمبنى والتي لا يقدر عليها إلا كل مبدع. الكلام المصفوف لا يكون شعراً حتى لو كتبته أنثى وزينته وزركشته بالضمة والكسرة والفتحة إذا كان خالياً من المشاعر الصادقة والموسيقى العذبة التي تكرس المبنى ليوصل المعنى في أبهى وأجمل حلة.
"سأجمعُ كلَّ ما قد كنتْ
وأبني فكرةً أجملْ
ومني بعدها أرحلْ
إلى ذاتي غداً أرحلْ"
الشاعر هو وجه هذا الجيل الذي يسأل: من أنا؟ وماذا كنت؟ ومن سأكون؟. الجيل الذي يحمل وجع اليقين أنه حتى في رحيله هو عائد إلى ذاته التي لم يعرفها لانشغاله عنها بتساؤلاته المتتالية والمُلحّة. ولقلقه وصداعه الذي سببته هذه القيادات السياسة الفاشلة التي استبدلت الوطن بالحزب وكل ما يعنيه ذلك من ضياع وخيبة أمل. في هذه الظروف لا يجد الشاعر بديلاً عن اللجوء إلى ذاته فهي "الحقيقة" الوحيدة الموثوق منها والتي لا غبار عليها. إليها فقط يلجأ الشاعر نظام أيوب كواحد من أبناء هذا الجيل الذي خدعه ذوي القربى من سياسيين وفنانين.
"وأبني لي سماءً كي أتيه بها إلى ذاتي
فكان البحرُ مرآتي
ومني كانت الأشياءْ
لأني كنتُ من ذاتي"
الذهاب إلى الذات ليس سهلاً، ولا يقدر عليه إلا من قرر المواجهة وهو يدرك أن هذه المواجهة لا يقدر عليها إلا الأقوياء الذي يملكون ما يكفي من الشجاعة. الذهاب إلى الذات ليس سهلاً وهو بحاجة إلى سماء واسعة وآفاق رحبة على الشاعر أن يوفرها. البحر والسماء رمزان للمدى المفتوح الذي حرم منه هذا الجيل الذي يمثله الشاعر، وتكرارهما في الديوان يرمز إلى هذا الحرمان وأبعاده النفسية.
لا أدري لماذا التصقتُ بهذه القصيدة، ميثولوجيا، دون بقية قصائد الديوان خصوصاً وأنها ليست الأجمل بينها. ربما لأنها تلخص الديوان. أو ربما لأنه تشبه نظام أيوب الشاعر الذي وظف الأسطورة في كل ما كتب ويكتب. في هذه القصيدة وفق الشاعر في نقل الحدث على الإيقاع الموسيقي المناسب وهو أمر ليس بالسهل:
"وتهتُ على حدود سمائيَ العليا
فمرَّ نهارْ!
ومرَّ البحرْ!
وكان الليلْ!
وكان نهارْ!!"
لو كنت أنا لقلت: "على تخوم" بدل "على حدود" ...لا أدري. في هذه الأبيات رائحة التوراة وقد نجح الشاعر أن يوظف معرفته بالموسيقى في جعل الحدث معاشاً وملموساً: فمر نهار...ومرَّ البحر...وكان الليل... وكان نهار. القارئ يشعر ويعيش عملية الخلق وكل ما يرافقها من رهبة وتوجس, أل أل في البحر والليل هي لمقتضيات الوزن ولكنهما بقيا بحر وليل من حيث الإيحاء والدلالة وقد كان الشاعر واثقاً من ذلك فلم يكسر الوزن للمحافظة على هذا الإيحاء.
الغموض من جماليات الشعر ولكن الإيغال في الغموض يتعب القارئ وقد أرهقتني بعض قصائد هذا الديوان وقد تكون مشكلتي. كذلك الإطناب في بعض القصائد يجعل القارئ يتأفف وينتقل إلى القصيدة التالية.
نظام أيوب شاعر في الخمسينات من عمره المديد وقد أضاع، مثلنا جميعاً، الكثير من عمره في البحث عن الذات. ما قرأته له في المدة الأخيرة يشكل نقلة نوعية تستحق التوقف عندها منا ومنه هو أيضاً. له التحية وبانتظار مولوده الجديد.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان.