محمود الريماوي:
ماي فخورة بالحلقة الأشد قتامة في سلسلة الإرث الاستعماري للامبراطورية البريطانية
الوعد الذي يصفه الفلسطينيون والعرب، عن حق، بأنه "وعد من لا يملك إلى من لا يستحق" كان، في واقع الأمر، بمنزلة إعلان حربٍ على شعب فلسطين
طالب عباس بريطانيا بالاعتذار من على منبر الأمم المتحدة، واقتصرت المطالبة على هذا الخطاب، بغير أن تكون هناك خطة متكاملة على مدار العام للتعامل مع المناسبة التاريخية
أعلنت رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، أمام جلسة لبرلمان بلادها، الأربعاء 25 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إنه سيتم الاحتفال بذكرى صدور وعد بلفور بكل افتخار. وتحل يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل الذكرى المائة لصدور الوعد الذي أطلقه وزير الخارجية، آرثر جيمس بلفور، باسم الملك جورج الخامس، والحكومة البريطانية (برئاسة ديفيد لويد جورج) في رسالة وجهها إلى المصرفي البريطاني اللورد روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية آنذاك. والرسالة قصيرة، وقد جاء اقتضابها ليخدم مضمونها الحاسم في حرمان شعب فلسطين من وطنه، وفي منح اليهود فرصة إقامة وطن لهم في فلسطين.
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يُؤتى بعملٍ من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر، وسأكون ممتناً إذا أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح".
الوعد الذي يصفه الفلسطينيون والعرب، عن حق، بأنه "وعد من لا يملك إلى من لا يستحق" كان، في واقع الأمر، بمنزلة إعلان حربٍ على شعب فلسطين، فقد بذلت بريطانيا آنذاك جهدها المومأ إليه في الوعد لفرض انتداب على فلسطين التاريخية، ابتداء من العام 1922، ليس بغرض احتلالها لأمد يطول أو يقصر، بل من أجل تطبيق هذا الوعد، وتمكين المنظمات الإرهابية الصهيونية من السيطرة على أرض فلسطين، بالتعاون مع قوات الانتداب. وقد منحت بريطانيا لـ"نفسها" غطاء شرعياً، إذ استصدرت من عصبة الأمم في 11 سبتمبر/ أيلول إقراراً بالانتداب على فلسطين، على أساس وعد بلفور. وبهذا، عملت القوة البريطانية الغاشمة على تمكين طرف آخر ذي أغراضٍ استعمارية إحلالية (الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية) من تحقيق هذه الأغراض على حساب شعب فلسطين الذي يصفه الوعد بأنه "طوائف غير يهودية"، مع النص على حقوق مدنية ودينية لهذه "الطوائف" والقفز الرشيق عن الحقوق الوطنية والسياسية الأساسية لهذا الشعب في وطنه. وقد بقي الانتداب قائماً حتى تاريخ إقامة الدولة الصهيونية في 15 مايو/ أيار 1948، حيث أدى الغرض منه، بعد أن اكتملت أركان الجريمة.
هذا التاريخ الاستعماري الأسود لبريطانيا هو موضع فخر رئيسة الحكومة المحافظة تيريزا ماي. وكانت الحكومة قد رفضت، في إبريل/ نيسان الماضي، تقديم اعتذار عن الوعد، متعللة بأن ذلك موضوع "تاريخي"، غير أن ماي تقدمت خطوة أخرى بالانتقال من عدم الاعتذار إلى إعلان الفخر بدور بريطاني في إقامة الدولة الإسرائيلية، وذلك باعترافٍ بريطاني متجدّد بدور وعد بلفور، ثم الانتداب المفروض بإقامة تلك الدولة، مع تجاهل متعمد ومتجدّد لشعب فلسطين، وللكارثة التي حلت به بالتزامن مع ذلك "الإنجاز" وبسببه. وفي حديثها بهذه الصورة، بالغة الاستفزاز، تبدو السيدة ماي وريثة أمينة للإرث الاستعماري في القرن الحادي والعشرين، وتبدو حكومتها كأنها امتداد لحكومة ديفيد جورج، وكأن الوعي البريطاني المحافظ جامد وثابت منذ قرن، على الرغم من كل سرديات أفول الاستعمار ووقائع هذا الأفول، وبروز منظومة حقوق الشعوب وحق تقرير المصير وإدانة العنصرية، لكن ماي المنفصلة عن الزمن (لا عن الواقع فحسب) تعرب عن الفخر، من دون خجل، بأبشع أشكال إرث بلادها الاستعماري، والذي يماثل أن تُقتلع السيدة ماي وعائلتها وشعبها من أرض ويلز وانكلترا واسكتلندا، وقذفها إلى العراء خارج الحدود، ومنعها من العودة.
وبينما أبدت الحكومة البريطانية بعضاً من التريث، قبل إعلان مخططاتها بشأن مئوية بلفور، وبعد أن وقع 13 ألف بريطاني وثيقة تطالب الحكومة بالاعتذار عن الوعد، فإن ماي لم تلبث أن اندفعت إلى الإعلان عن احتفال بالمناسبة، وتتحدث أنباء عن دعوتها رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، مع 150 شخصية أخرى، للاحتفال قريباً بالمئوية في لندن. ومن عجبٍ أن تكون وثيقة استعمارية ذات مضمون عنصري مدعاةً للاحتفال بها على رؤوس الأشهاد.
وسبق للكاتب البريطاني، روبرت فيسك، أن تساءل، في مقال في "الإندبندنت" في 3 إبريل/ نيسان من العام الجاري، عن مغزى الامتناع عن تقديم اعتذار للفلسطينيين، قائلاً إن البريطانيين طالما تقدموا باعتذارات، سواء بما يتعلق بدور الامبراطورية البريطانية في تجارة الرقيق أم بشأن المجاعة الإيرلندية، فلماذا لا يعلن البريطانيون اليوم اعتذارهم للفلسطينيين عن وعد بلفور؟.
تصم حكومة تيريزا ماي آذانها عن هذه الدعوات الموضوعية، وقد ذهبت رئيسة الحكومة إلى حد أنها أوقفت تحقيقاً برلمانياً، فتحته لجنة الشؤون الخارجية، في أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بشأن سياسة بريطانيا حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فيما قال رئيس اللجنة، البرلماني كريسبن بلانت، إنه كان يأمل، لأسباب رمزية، أن تُنشر نتائج التحقيق في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل في ذكرى الوعد. والمغزى من حديث الرجل أنه كان حريّاً ببريطانيا أن تقوم ببعض النقد حيال سياستها إزاء هذا الصراع، في مقابل ما جنته الحركة الصهيونية من وعد البريطاني بلفور. ولكن السيدة ماي لا تعبأ بهذه الاعتبارات، فهي فخورة بالحلقة الأشد قتامة في سلسلة الإرث الاستعماري للامبراطورية البريطانية، والتي أدت إلى انتزاع شعب كامل من أرضه، وقذفه تحت النار والإرهاب خارج الحدود.
وقد سبق للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أن طالب بريطانيا بالاعتذار من على منبر الأمم المتحدة، وقد اقتصرت المطالبة على هذا الخطاب، بغير أن تكون هناك خطة متكاملة على مدار العام للتعامل مع هذه المناسبة التاريخية. ولا شك أن غياب هذه الخطة وافتقاد الضغط المعنوي والسياسي والإعلامي العربي والفلسطيني على الحكومة البريطانية قد شجع هذه الحكومة، بعد موقف التريث على القيام بحملة تحدٍ مُشينة للشعب المنكوب، مع التأهب للتزلف والانحناء لرئيس حكومة الاحتلال الاستيطاني والعسكري، نتنياهو، وتبادل الأنخاب معه في احتفال خاص ووشيك بالمناسبة في لندن.. احتفال يتم فيه التمسك بهذا العار البريطاني، بدلاً من الاعتذار عنه.
* نقلًا عن العربي الجديد - لندن
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net