رفيق الحريري في ذكراه الثانية عشرة/ بقلم: د.خالد قباني

كل العرب
نُشر: 01/01 08:37

د. خالد قباني في مقاله:

رفيق الحريري، وهو أكبر من كل الصفات التي يمكن أن نغدقها عليه، كان قلبه الكبير يتسع لانتمائه الانسانيّ والديني والقومي والوطني من دون أن يجد تعارضًا بين هذه الانتماءات

الحريري رجل الدولة ورئيس حكومة لبنان لأكثر من عقد من الزمن، هو العربيُّ المؤمن بعروبته الذي لم يكن يجد حاجةً إلى التوفيق بين عروبته ولبنانيته، لأنه لم يكن يجد تعارضًا بينهما

من اغتاله أراد اغتيال لبنان، أراد اغتيال الحرية والديموقراطية، أراد القضاء على مسيرة البناء والإعمار والتغيير، أراد القضاء على صيغة العيش المشترك والوفاق الوطني ووحدة لبنان واللبنانيين

من بين الحجب أطل، كالصبح المتبسم ينثر خيوطه الذهبية الأولى مؤذنًا بفجر جديد مشرق، بدّد ظلمات الليل الكثيف الذي أرخى بأثقاله على الصدور، وأنعش قلوبًا أضناها الألم والحزن، وأيقظ نفوسًا استكانت وانطوت على ذاتها، من شدة القهر والظلم، أو كأنه ندى الصباح يسَّاقط رقةً وحنانًا فتتفتحُ له الورودُ الذابلة المتكسرة وتعود إليها إشراقة الحياة. هوَ هو المكتمل الصورة والملامح، المشرقُ المتوهج، المتألق الجسور، الممتلئ بل المتماوج حياةً ودفئًا وشبابًا. قال لبيروت التي كانت مطمورةً تحت رماد الفتنة والاجتياح الاسرائيلي المدمّر، ونرددها معه اليوم في ذكراه: «بيروت قومي، يا بيروت قومي، قومي من تحت الموج الأزرق قومي، كقصيدة وردٍ قومي… كقصيدة نارٍ قومي… قبلك يا بيروت لا يوجد شيء… بعدك شيء… مثلك شيء… يابيروت».

رفيق الحريري، وهو أكبر من كل الصفات التي يمكن أن نغدقها عليه، كان قلبه الكبير يتسع لانتمائه الانسانيّ والديني والقومي والوطني من دون أن يجد تعارضًا بين هذه الانتماءات، بل وكان يرتاح الى الانسجام بين القيم السامية التي تفرضها على المؤمن بها حقًا. هو نفسه حامل مشعل العاصمة بيروت التي أراد أن يجعلها منارة لبنان وسيدة العواصم كلها.

رفيق الحريري هو رجل الدولة الذي اطلع بمسؤولية الحكم في لبنان، كان محور اجتماعات جنيف ولوزان ومؤتمر الطائف للتوفيق بين ممثلي الفئات المتنازعة من الشعب اللبناني، حتى أمكن بصبره وجهده وحنكته من المساهمة في الوصول مع المؤتمرين في الطائف إلى وثيقة الوفاق الوطني، التي أوقفت نزيف الوطن من دماء بنيه، ونقلت لبنان إلى جمهورية جديدة حاول الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن يجعلها في مصاف الدول المتقدمة بنظامها السياسي واقتصادها المنفتح، وجاب العالم بشرقه وغربه مستفيدًا من محبة أشقائه العرب وصداقة رؤساء الدول الكبرى، وثقة المؤسسات المالية الدولية به، لتنفيذ مشروعه الكبير في إعادة إعمار البلاد لا بحجرها فحسب بل والأهم من ذلك ببناء المؤسسات التي تنقل البشر من رعايا إلى مواطنين مشاركين في بناء دولة حديثة وقادرة.

ورفيق الحريري رجل الدولة ورئيس حكومة لبنان لأكثر من عقد من الزمن، هو العربيُّ المؤمن بعروبته الذي لم يكن يجد حاجةً إلى التوفيق بين عروبته ولبنانيته، لأنه لم يكن يجد تعارضًا بينهما بل كان عميق الإيمان بأن انتماءه العربي يكمل انتماءه اللبناني، وبأن قوة لبنان هي قوةٌ للعرب وقوةٌ العرب هي قوة للبنان، ولذلك لم يألُ جهدًا في حمل قضايا امته العربية إلى المنابر الدولية، ساعيًا إلى رأب الصدع بين زعماء العرب فيما بينهم ثم بينهم وبين زعماء العالم.

ورفيق الحريري كان مسلمًا خالص الإيمان بدينه، ولم يكن يرى في إيمانه بالإسلام ما لا يؤكد إيمانه بالإنسان، بل كان إيمانه يفوح عطرًا بنشر المحبة وعمل الخير ومساعدة كل محتاج من دون تمييز أو تفرقة بين الأجناس والأديان والأوطان.

غدروا به وقتلوه، من اغتاله أراد اغتيال لبنان، أراد اغتيال الحرية والديموقراطية، أراد القضاء على مسيرة البناء والإعمار والتغيير، أراد القضاء على صيغة العيش المشترك والوفاق الوطني ووحدة لبنان واللبنانيين. أرادوا اغتيال أحلام اللبنانيين بغدٍ أفضل. ولكن لا، لن يغتالوه، لن ينزعوا صورته من قلوبنا، لن يحجبوا إشراقة النور التي غرسها في عيوننا، لن يمحوا منا الذاكرة والتاريخ، وسيبقى الدمع يسبح في مآقي العيون منّا كلما لاحت صورته أمامنا او حملت أو رددت النسمات صدى كلماته وأنغام صوته التي تثلج الصدور. والراية ستبقى مرفوعة خفاقة عاليةً تبشر بالمستقبل، مستقبل لبنان الواحد، لبنان الحرية، لبنان الإخاء، لبنان العدالة والمساواة، لبنان العربي السيد المستقلّ.

بيروت التي أحبها الرئيس الشهيد، أرادها بيروت الزاهرة، بيروت الحرية، بيروت الثقافة، بيروت الاعتدال، بيروت الجامعة، بيروت المحبة الحاضنة لكل لبنان، بيروت العربية، وهي كذلك، تاريخها يشهد لها، مواقعها تشهد لها، ولبنان الذي عشقه الرئيس الشهيد، وعشقه ترابه وأرضه وأهله، هو لبنان الوفاق والوحدة، لا لبنان الانقسام والتجزئة، لبنان المحبة والانفتاح، لا لبنان العصبية والعزلة، لبنان الطامح والقادر بإرادة وعزيمة ابنائه أن يقرر لنفسه ما يريد، وأن يبني المستقبل الذي يستجيب لآمال وأحلام شعبه.

وإذ نفتقد الرئيس الشهيد رفيق الحريري اليوم في الذكرى السنوية الثانية عشرة لاستشهاده لا بد لنا أن نسجل انه كما اعاد بجهده وصبره وعرقه بناء لبنان الجديد حجرًا وبشرًا ومؤسسات، فإنه أعاد بدمه بناء وحدتنا الوطنية التي ما تزال يد الغدر التي امتدت إليه تحاول أن تمتد إليها، إن باستمرار مسلسل الاغتيالات التي طاولت رجالات السياسة والفكر والقلم، أو بنفث الأحقاد وتحريك الغرائز ومحاولة إحياء الفتنة التي ذقنا مرارتها جميعًا.

نعم، لقد خافوك فاغتالوك، اتسع صدرك للعالم كله وصدر العالم كله لم يتسع لك، فاغتالوك. ولكنك ستبقى حيًا في قلوبنا جميعًا، قلوب محبيك، وستبقى هالتك وأنت في عليائك تقض مضاجع المجرمين الذين انتهكوا في اغتيالك كل الحرمات. وسنبقى اوفياء لك ولرسالتك التي رفعتها ونشرتها، بأن الأوطان لا تبنى إلا بالمحبة والتعاون والتضامن، وإننا حين نربح الوطن نربحه جميعًا، وحين نخسر الوطن فإننا نخسره جميعًا أيضًا. لبنان كله يستذكرك فقُرَّ عينًا بأن شباب لبنان سيبقون أمناء على رسالتك، أوفياء لمبادئك، حاملين رايتك.

وزير سابق.

نقلا عن اللواء

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة