الجامعة الأميركية في بيروت 2002/ مريم مشتاوي

كل العرب
نُشر: 01/01 10:27,  حُتلن: 13:05

كانت عشق تعرف بجمال يذكرنا بمقولة كنت قد قرأتها لنيتشه ومفادها أن أسمى أنواع الجمال ليس ذلك الذي يفتِنُنا على الفور، بل الذي يتسلّل إلينا ببطء نحملهُ معنا ونحن لا نكاد نشعر به.
كل من يلتقي بعشق يغادر محملاً بالربيع... فحالما تتركها تتفتح عيناها في داخلك وتنبت فوق خدودك حمرتها ويتسلل دفؤها إلى أنفاسك..
منذ صغرها وعيناها محطة تقف على رصيفها أحلام شباب قريتها الشمالية ... فعيناها الواسعتان الخضراوان نافذتان تطلان على طرق هادئة طويلة ولكن لا نهاية لمطباتها...
خرجت من البوابة الرئيسة بسرعة لتلتقي بكريم.. كادت تصطدم بمعظم الطلاب الخارجين والداخلين إلى الجامعة ... وتوجهت بسرعة إلى جيب التويوتا الأسود الذي كان يتصدر شارع بليس.
جلست على المقعد الأمامي من السيارة متعثرة بفستانها القصير تحاول إطالته وشده من الجوانب .. تمغطه من الجهة اليسرى فيقصر من اليمنى. كانت لعبة خاسرة .
لا جدوى من محاولة التحرر وراهبة الإرسالية الفرنسية تتربص لها في الذاكرة ..فترى عينيها تتسعان كالبومة من مرآة السيارة الأمامية الصغيرة حاملة مسطرة طويلة تهددها بعقاب أمام شباب المدرسة إن لم تدخل الحمام بسرعة وتشق "زاف المريول" الكحلي فيغطي المسافة المتبقية بينه وبين الجوارب البيضاء.
بدأ وجهها يحمر والعرق يتصبب من جبينها:
-ليه لبسته وهو بسببلي كل هالإحراج ؟
ولكنها تذكرت كلمات والدتها ياسمين:
-لما تلبسي القصير لا تمضي اليوم وأنت عم تحاولي طوليه... ثقي بخياراتك حتى بالشغلات الزغيرة..
أزاحت يدها بهدوء عن تنورتها واغمضت عينها للحظات وهي تبتسم ابتسامة مكر وتحد في وجه الراهبة ..صفعتها للمرة الأولى
وراحت تصرخ : أنا حرة حرة حرة..
قفزت على سُوَر المدرسة وجرت بعيداً…
- أنا حرة حرة حرة.
فجأة صحت على خربشات الراديو. كان كريم يحاول جاهداً أن يجد أغنية كلاسيكية هادئة يتجاهل بها اضطرابها.. لم تسأله عن وجهتهما وهي تعرف ضمنياً أنه لقاؤهما الأخير...
أوقف السيارة قرب رصيف "الروشة". لم تتلفظ بكلمة واحدة... كانت ترتعش كطفلة مبللة. كم تمنت أن يجفف خوفها ... وكم تمنت أن يطول صمته وكأنها أرادت أن تسرق لحظات حب إضافية من أعماق البحر. بدأت دقات قلبها ترتفع وتهبط مع الأمواج ... في تلك اللحظات كانت أنفاسه عالية فتعلقت بها كأرجوحة حملتها فوق المياه..ثم قطع حبليها بقوله:
-ما بعرف كيف بلش ولا من وين ..
قاطعته ووضعت يدها على فمه:
-ما في لزوم..
رفع يدها عن فمه بحنو وكأنه يصر على تسجيل حماقة جديدة:
-عشق أرجوك لا تقاطعيني، بعرف إني أحبك بس.....
كان يتلعثم في عبارته يمغطها في فمه .. يمضغ بعضها والبعض الآخر يتأنى في إخراجه فتسقط منه بعض الكلمات جافة فظة صحراوية خالية من رطوبة المعاني ...
عيناه كمايسترو فرقة موسيقية ترتفعان مع الكلمات لتسندا الحاجبين فتبدو جبهته لبضع دقائق وكأنها أصيبت بتشنج مفاجئ... ثم تهبط إلى القاع!
قاطعته من جديد وأغلقت فمه للمرة ثانية ولكن هذه المرة كانت تضغط عليه بقوة وكأنها تتأكد من إحكام القفل جيداً كي لا يتمكن من فتحه من جديد..
ومن غير أن تتلفظ بكلمة واحدة فتحت باب السيارة بهدوء شديد وكأنها كانت خائفة أن توقظ ذكرياتها. وقفت لحظة ووجهها مقابل لأفق البحر البعيد... فككت شعرها الطويل الذي عقدته بربطة حمراء رخيصة، فبدأت خصلاته تصارع وتتمرد على هواء المدينة..
فتحت حقيبتها وأخرجت نظراتها السوداء.. ارتدتها بسرعة وسارت شامخة في الاتجاه المعاكس..
مشت طويلاً على رصيف الروشة وهي تفكر بقول جيته:
" الرجال الذين يبكون طيبون " ..
آه يا جدي أين أنت؟ فالرجل في ضيعة جدي كان يُعرف بكلمته وصدقه وشهامته وقوته، وأذكر أنّ جدي كان يبيع أرضاً بإعطاء كلمة . لم يُمض يوماً على ورقة ... وكانت كلمته " نعم نعم أو لا لا "... لا مساومة ولا غشّ ولا خداع ولا وصولية ...
كبرت عشق ومازال جدها مثلها الأعلى، ولكن آخر مرة التقت فيها والدها في ولاية بانسلفينيا في أمريكا، وهو الرجل الذكي والمثقف والهادئ، قال لها وهو يودّعنها ويضمها إلى صدره:
يا بنتي تغيّرت الدنيا .. هلأ أنت سمكة زغيرة بالمحيط وأنا خايف عليكِ .
بين ضيعة جدها الطيبة والمحيط الذي وصفهُ والدها، عمرٌ تمرّد على الأشياء الجميلة، وغيّر المقاييس ..
ووجدت نفسها تردد بصوت خافت:
ليتني بقيتُ في بيتكَ يا جدي ... بيت العقد القديم .. أما أنتَ يا أبي فلا تخف .. حتّى الأسماك الصغيرة لا يمكن اصطيادها مرتين..
*

كريم ابن محمد وعشق بنت عبدالله يسكنان في الشارع نفسه، يلعبان في الحقل نفسه، ولكنه ابن محمد وهي ابنة عبدالله..
مشت وهي تشد شعر الراهبة الإرسالية كما كانت تشد شعرها في المدرسة لمجرد القيام بهفوة صغيرة. في تلك اللحظة قررت عشق السفر إلى أوروبا لإنهاء الدكتوراه في اللغة العربية.
عادت إلى الجامعة بسرعة …جلست على المقعد الخشبي المطل على البحر.. عادت وكأنها على موعد أخير مع ظلال الشجر وكأنها أرادت أن تحمل الشمس بهدوء وترمي بها في البحر ثم تراقب أشعتها المتناثرة فوق الأمواج.. في تلك اللحظات رأت كلمات قصيدتها الأولى "وداعاً يا بيروت" تنهمر فوق يديها فتغير خطوطها وتشق طرقات جديدة …

لبنان

 موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net  

 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة