ذكراك والدي ساقت لي جميع القوافي / بقلم: فاطمة كيوان

كل العرب
نُشر: 01/01 09:53,  حُتلن: 08:09

كنت قد اتممت للتو تحضير الحمام لتغسيله حين اصطفاه الله لجواره .. وأنا بقربه وقد بدى منذ المساء يعاني سكرات الموت .. والعرق يتصبب من جبينه، وأمي تجلس بالقرب من السرير وأنا اقرا سورة ياسين .. تملكني خوف كبير وشعور ملح لوداع روحه الطاهرة .. وأخوتي وعمي حوله وأمي تحاول ترطيب الشفاه بقطرات المياه ..اغمض عينيه وأسلم روحه وأصبح جثة هامدة لا حياة فيها .. سوى بعض السخونة التي مازالت في الجسد الطري وأنا أتحسسه، صفحة وجهه تغطيه سكينة عجيبة.. روحه تحلق فوقي .. أحسها تنفث أنفاسها في وجهي.

أحسست ظلالا كثيفة من الكآبة خيمت على نفسي ورصت حجرًا على قلبي، رايتهم كلهم حولي كلهم يبكي، وحرت للحظات في ماهية الموت ؟؟ وكنت للمرة الأولى في حياتي أرى نفسا تموت أمام ناظري. نفسا لطالما أحببتها ولطالما كان لها مع الطيب وقفات، وبين الضلوع الحانية، وما زلت أحيانا ابحث عنها في زوايا الدار متسائلة ؟؟ هل يا ترى تعرف بما حدث وما صار؟؟؟

وهكذا بدأت تندلق الذكريات من الذاكرة المعتقة في خاطري، ذكريات لمن زين الليالي والساعات فتغمرني في دافئات ايامي برفقة أبي وهو يجول في البيت والأرض أحيانا وأحاول استعادة خيوط الحياه المتشابكة والذكريات التي تبوح بها وشائج القلب هناك في بيتنا الذي يقع في الحارة المركزية لقريتنا حيث كان الطريق الرئيسي للعبور لمحطة الباص وكذالك لقربه من الجامع خاصة أيام رمضان وجارنا (الامام أبو علي ثريا) رحمه الله وعمي حسين وأبو السعيد وحكاياهم التي لا تنسى ..

استحضرت أهل الحارة كلهم في ذهني - صلاة الفجر وأنت يا ابي تتوضأ على درجات البيت عند البوابة وجدي أبو السعيد بمقابلتك وتصدح حناجركم بأذكار وأدعية الصباح واكاليل من نور رمضان تغطي المكان .

اخ يا زمن ((لقد ضاعت منازل – لها في القلوب منازل)) لوحة الحنين للحارة وبيوتها ولأولئك الناس محفوظة في قلبي دون شوائب حنين لكل ما هو جميل هناك.. فذاكرة القلب تمحو كل الذكريات السيئة – وتضخم الذكريات الطيبة – لدي.

اليوم يا ابي وقد مضى على رحيلك اثنى عشر عامًا عن افتراقي عنك احتار كيف اعبر عن مدى اشتياقي .. ومدى فقدي لك .. يا من كنت استدفئ بنوره وحبه وبساطته وبشاشته.

كنت لي مثاليا بطيبتك .. تفيض مرحا ..بتلك الإبتسامة وتلك البشاشه التي لا تغيب عن ملامحك .. حسن معاملتك ولطفك . وخفة دمك كانت لي أنس النفس وقرة العين ..تنحفر صورك في روحي الى الابد .

عشرتك الطيبة وعطائك ومقابلتك للاحسان بأضعافه كان سر محبة الناس لك والجميع حتى اليوم يتذكر نهفاتك الطريفة الجميلة مع بعضهم ويترحم عليك يا ابي ، مثل حكايتك الطريفة مع الامام ( أبو علي ) امام المسجد وكان في بداية طريقه فأطال واسترسل في خطبة الجمعه بالاحاديث وأنت تقف خلفه في الصف الأول لتؤدي صلاة الجمعة .. وخفت ان يفسد وضوئك فقلت له بنبرة هادئة ..( انهي يا امام ) للمرة الأولى والثانية والثالثه والامام مسترسل بالحديث لم يعيرك انتباه .فما كان منك الا ان قمت من مكانك وقلت له بنبرة فيها الضحك وفيها الامر سويا ((قلنالك انهي يا امام –قبل ما نعملها باواعينا – خلصنا )) وصار الجميع يضحك وتقبلها هو برحابة صدر ودعابة .

حتى اليوم الجميع يذكرني بها ويضحك وغيرها من النهفات الجميلة .. يسردها عنك الكبار ممن عايشوك – كانت حياتك جميله – هادئة – فيها نوع من الرتابة – اكل وصلاه – ولعبة الشدة مع بعض الأصدقاء – وفي اخر الأسبوع الذهاب الى الأرض لسقي شتلات الزيتون التي غرستها.

اذكر جيدا حينما كنت أتشاجر مع اخوتي في الزيتون لبطئي في العمل والتقاط الحبات بل اعمل منها لعبه وانا اقلبها من يد ليد او أحيانا اكومهم كومه واجلس اعد الحب .. تأتي وتقول :
يلا –يلا يا بنت – بدنا نخلص الزتونه – بدنا نظب الحبات – انت مش تاعت شغل – انت تاعت اكل وزواده )
مين بدو بكره يظبك وانت بتعرفيش تلقطي الزتون – احنا فلاحين بدك تتعلمي ولا شو ؟

اه يا أبي .. كأنك كنت تعلم اني سأتزوج من انسان ليس لديه أرض وليس لدية زيتون .. اذكر انك حينما ودعتني وانا عروس لأول مره بكيت ورأيت دموعك وكانت دموع فرح بالتأكيد ، أما دمعتك الثانية التي لا يمكنني ان انساها فكانت تلك الدمعة الحزينة التي تدحرجت من عينيك الصغيرتين وانت تجلس على شرفة بيتي تنتظرني لآجهز نفسي لاصطحابك معي للمستشفى لزيارة أمي .. وكانت في حالة حرجه وقد أنهكها المرض ..

اخذت تكلمني عن حزنك لغيابها ولمرضها وشفقتك عليها وخوفك ان هذه المرة كثير صعب الوضع – ويمكن انها ما تعود على الدار ..قلت بصوت متحشرج حزين :
(( يابا – يلا بلاش نتأخر – امك تعبانة والله اعلم اذا بترجع عالبيت ولا .....واجهشت بالبكاء ) وكنت تقصد ( الموت).. واكملت وأنا أمسد رأسك بيدي ..وقلت :
(صحيح اني مرات بتزاعل معها – وهي عصبية –بس بعرف انو من وجعها – وبعدين والله يابا مرات حتى الصياح والزعل منشتقلوا )) فش زي المرة للزلمه بالبيت – انا خايف يابا امك تموت – ((وان ماتت الجاجه رح يتفرقوا الصوصان )) .

هذه الكلمات لا يمكنني ابدا نسيانها .. ولطالما فكرت بها وبالحال .. نعم اذا ماتت الام ابتعد الاخوه ولم يعد للمنزل والبيت مكان – يلمهم – لانو اللي امو بالبيت يابا – ايدو بخابية الزيت )) هذه كلها كلماتك وتعابيرك
اذكر يومها يا ابي اني قبلت باطن يدك وظاهرها .. وتسربلت أدمعي بين أناملك وانا أقول لك :
لا يابا – ادعيلها الله يلطف فيها وترجع عالبيت دعائك مستجاب .. انت . وأخذنا ندعو لها سويا .

أبي – ماذا عساني اذكر والذكريات تفوق الكلمات والصفحات-
ابي – يا صاحب العينين الصغيرتين – المرهقتين – البائستين – الطيبتين – يا من تعثر في طفولته –وشبابه – كثيرا كثيرا أيها الطيب
أتمنى من الله ان تكون ساكنا في الجنان في ظلال الرحمان وبرفقة الطيبين الابرار – مغمور بأكاليل من نور الجنة ، واسأل الله ان تكون رافل بأثواب النعم ، يغمرك عطف الرحمن ويبرد ثراك ، كما كنت انت تغمرنا بحنانك وعطفك ..
وانك وان غبيبك القدر عنا فانك ستبقى قطعة منا ونحن ما زلنا نعيش في فيض من عطفك وخيراتك .

لك مني الدعاء كلما اشرق الصبح وغاب القمر

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة