الرئيسية مقالات

هل الأدبُ يعكسُ الواقعَ النفسيّ أم يشكّله؟ قراءةٌ نقديّةٌ في العلاقةِ بين النصّ والذاتِ الإنسانيّةِ

أحمد ناصر
نُشر: 21/08/25 14:26
هل الأدبُ يعكسُ الواقعَ النفسيّ أم يشكّله؟ قراءةٌ نقديّةٌ في العلاقةِ بين النصّ والذاتِ الإنسانيّةِ

الأدب ليس مجرد سرد للأحداث أو وصف للشخصيات، بل هو فضاء معقد يعكس ويعيد تشكيل التجربة النفسية للإنسان. من هنا يطرح السؤال الجوهر: هل الأدب يعكس الواقع النفسي للإنسان كما هو، أم أنّه يشكّله من خلال النصوص والشخصيات والأحداث؟ لفهم هذه العلاقة، يجب النظر إلى النصّ الأدبيّ كحوار مستمر بين الكاتب والنصّ والقارئ، حيث تتفاعل الخبرات الشخصيّة والاجتماعيّة والثقافيّة لتنتج وعيًا نفسيًا ومعرفيًا جديدًا.
يمكن اعتبار الأدب انعكاسًا للواقع النفسيّ من خلال قدرة النصوص على تصوير الصراعات الداخلية والرغبات والمخاوف، وهو ما يظهر جليًا في الروايات النفسيّة الغربيّة مثل أعمال دوستويفسكي. ففي الجريمة والعقاب، يعيش رأسكولنيكوف صراعًا داخليًا شديد التعقيد بين رغبته في إثبات الذات وارتكاب الجريمة، وبين شعوره بالذنب والخوف من العقاب، ما يجعل القارئ يعيش تجربة نفسيّة حقيقيّة، وكأنّ النصّ يعكس مرآة ضمير الإنسان. وكذلك في رواية الشياطين، يعكس دوستويفسكي الصراع بين الفرد والمجتمع وبين الإيمان والتمرّد، ما يجعل الأدب وسيلة لفهم النفس الإنسانيّة وتحليل دوافعها الداخليّة.
في الأدب العربيّ، نجد انعكاسًا مماثلًا للواقع النفسيّ في أعمال نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف. فـ أولاد حارتنا تعكس الصراعات النفسيّة للشخصيات داخل مجتمع يحدد الخيارات الأخلاقيّة والقيميّة، ويعكس الضغوط الدينيّة والاجتماعيّة على الفرد. وفي مدن الملح لعبد الرحمن منيف، تظهر الشخصيّة وهي تواجه التحولات الاجتماعيّة والسياسيّة، فتتجلى الضغوط النفسيّة الناتجة عن الظلم والاستبداد، ما يجعل القارئ يعيش تجربة الصراع الداخليّ للشخصيّة، ويستشعر أثر الواقع الاجتماعيّ على النفس البشريّة.
لكنّ الأدب لا يكتفي بدور الانعكاس؛ فهو أيضًا عامل فاعل في تشكيل الواقع النفسيّ. النصّ الأدبيّ قادر على خلق عوالم جديدة تتجاوز الخبرة اليوميّة، ويحفز القارئ على التأمل وإعادة تقييم ذاته والعالم من حوله. يظهر ذلك جليًا في أدب الوجوديّة، مثل أعمال جان بول سارتر وألبير كامو، حيث تقدّم الروايات تساؤلات وجوديّة عميقة حول الحريّة والمسؤوليّة والمعنى الشخصيّ للحياة، فتؤثّر على وعي القارئ النفسيّ وتدفعه إلى إعادة تشكيل مشاعره ومفاهيمه. في رواية  الغريب لألبير كامو، يواجه القارئ تجربة الاغتراب واللامعنى في الحياة، ما يجعله يعيد التفكير في مفهوم الموت والحياة والاختيار الأخلاقيّ. أما الروايات التي تستخدم أسلوب تيار الوعي، مثل أعمال فيرجينيا وولف في Mrs. Dalloway، فتسمح للقارئ بالانغماس الكامل في تجربة الشخصيّة الداخليّة، وإعادة إنتاج مشاعرها وأفكارها في وعيه الخاصّ، لتتحول القراءة إلى تجربة نفسيّة وفكريّة عميقة.
في الأدب العربيّ المعاصر، نجد تجسيدًا لهذا الدور التكوينيّ للأدب في أعمال أحلام مستغانمي، مثل رواية ذاكرة الجسد، حيث تعكس النصوص صراعات الحب والفقد والهويّة، وفي الوقت نفسه تشكل وعي القارئ تجاه العلاقات الإنسانيّة والانتماء العاطفيّ. الشخصيات النسائيّة في هذه الروايات، مثل "ليلى"، تعكس تجربة نفسيّة مركبة، تجمع بين الألم العاطفيّ والتطلعات للحريّة الشخصيّة، ما يجعل النصّ الأدبيّ مساحة للتفاعل النفسيّ والمعرفيّ بين النصّ والقارئ.
الحقيقة الأدبيّة تكمن إذن في التفاعل المستمر بين الانعكاس والتشكيل. فالنصوص غالبًا ما تنبثق من تجربة نفسيّة حقيقيّة، لكنّها تُعاد صياغتها بطريقة فنية تسمح للقارئ بالتفاعل معها، وإعادة إنتاج تجربة جديدة في وعيه النفسيّ. الأدب يصبح بذلك فضاء ديناميكيًا تتلاقى فيه خبرات الكاتب والقراء، لتتشكل رؤى جديدة وتولد خبرات معرفيّة ونفسيّة متجددة. فالشخصيات، سواء في الأدب الغربيّ أو العربيّ، تتحول إلى وسائط لفهم النفس البشرية وتحليل سلوكها، وفي الوقت نفسه تشكل أطرًا جديدة لإعادة النظر في القيم والمشاعر والخيارات.
كما يمتدّ تأثير الأدب ليشمل الوعي الجماعيّ. فالقصص والروايات والشعر لا تعكس فقط التجربة الفرديّة، بل تساهم في تشكيل تصورات المجتمع حول القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة. في الأدب الغربيّ، نجد مثالًا في To Kill a Mockingbird لهاربر لي، حيث يعكس النصّ قضيّة العدالة الاجتماعيّة ويؤثّر في وعي الجماعة حول مفاهيم الظلم والمساواة. أما في الأدب العربيّ، فالشعر الحديث، مثل أعمال نزار قباني، يعالج صراعات الحداثة والتقاليد، ويسهم في إعادة تشكيل القيم الاجتماعيّة والنفسيّة، وهو ما يبرز دور الأدب كأداة تأثير نفسيّ واجتماعيّ في الوقت نفسه.
في الختام، يظهر الأدب كعنصر مزدوج الوظائف، فهو يعكس الواقع النفسيّ للفرد والمجتمع وفي الوقت نفسه يشكله من خلال النصوص والشخصيات والأحداث. إنّ فهم هذه العلاقة المعقدة بين النصّ والذّات الإنسانيّة يعزز إدراكنا للأدب ليس فقط كفنّ، بل كأداة معرفيّة ونفسيّة قادرة على إعادة رسم حدود التجربة الإنسانيّة، وتشكيل وعي الفرد والمجتمع، وإثراء الحوار بين الذّات والآخر، بين الواقع والتخيّل، وبين الانعكاس والتشكيل النفسيّ. وبذلك يظلّ الأدب قوّة حيّة وفاعلة، تفتح آفاقًا جديدة لفهم النفس البشرية وتجربتها المتجددة، وتبرز دوره كمرآة وكمحرّك في الوقت نفسه.