الرئيسية خاطرة

حُمّى الكتابة

ناجي ظاهر
نُشر: 20/08/25 20:19
حُمّى الكتابة

حُمّى الكتابة
لحظات تحبس الانفاس مع كاتب حساس
ناجي ظاهر
اندفع الاديب الروائي الشاعر حسين فاعور، ابن قرية الحسينية البدوية القريبة من بلدة عرابة البطوف، اندفع في السنوات الاخيرة من حياته في كتابة الرواية تلو الرواية، وزاد في اندفاعه هذا في الاشهر الاخيرة من حياته، فكتب رواية "مفتاح الكنز" او صاحب الجبل، وواضح من عنوان هذه الرواية التي نشر معظم فصولها، اذا لم يكن كلها في مواقع الكترونية اعتاد على التعامل معها، واضح انه انما كان يودع الحياة ويضع خطواته الاخيرة في مسالكها الجبلية وشعابها المغرية، منبها ايانا ومهيبا بنا ان نعي وجودنا وان ندرك ما هو متوقع.
خلال زيارتي بيت كاتبنا الفقيد، برفقة آخرين لتقديم واجب العزاء والمواساة،( كانت وفاته يوم الخميس 29.4.2021)، تحدثت إلى نجله الاكبر ذاكر وعموم الجالسين عن علاقتي به، كيف ابتدأت اعجابًا بكتاباته الشعرية، وكيف اختفى ليظهر في السنوات الأخيرة، لأترافق معه فننشئ معًا "منشورات الملّ" الثقافية، ونشرع في اصدار الكتاب تلو الكتاب، واذكر يومها انني محورتُ الحديث حول الانتاج الادبي النثري لفقيدنا الغالي، فتحدثت عن كتاب مذكراته" على خط النار"، الذي سرد فيه معاناتَه كاملةً منذ ابتدأ الكتابة حتى تمكن مع آخرين من أهل الخير من تحرير قريته وحمل السلطات الاسرائيلية على الاعتراف بها"، بعد تجاهلها وجودها وعدم اعترافها بها بالتالي، على مدار العشرات من السنين، كما اذكر انني خَصصتُ انتاجه الروائي بإشارة موسعة، ذلك ان كاتبنا الراحل انتج خلال عدد قليل من السنوات، عددًا من الروايات اشرت منها إلى "فتاة الموسيقى"، و" البئر الملوثة- مذكرات رئيس، وروايته الثالثة "دخان في كروم الله"، وقد توقفت يومها عند روايته الاخيرة " مفتاح الكنز- او صاحب الجبل"، واقترحت على أهل الكاتب الفقيد ان نتعاون معا على اصدار هذه الرواية المميزة، فهي تستحق. 
انتهت تلك الزيارة إلى بيت الفقيد، ولم تصدر تلك الرواية حتى هذه الايام، غير ان هاجس اصدارها بقي يلح علي وقد ازداد هذا الشعور في الفترة الاخيرة، ربما لأنني رأيت في تلك الرواية تميزًا ما، وربما لأنها حاولت ان تقدم لنا" مفتاح الكنز" المفتقد، أو لأنها تضمنت فصلًا خارقا للمعتاد.. ما زلت اتذكر اثاره رغم مضي فترة لا يستهان بها على تجوالي في متاهاته المحببة، الساحرة، والوغلة في روح العمق الابداعي والصدق الواعي. 
تمركزت أحداث هذه الرواية بصورة عامة، حول وجودنا نحن المواطنين العرب الباقين في وطنهم بعد ضربة يد التهجير القاسية لنا، وقدّمت صورة استعارية ادبية لصاحب الجبل الذي يريد ان يجعل منا حطابين وسقاة ماء، وقد توقفت عند ما يبذله بطل الرواية من جهود كي يوقف فرعون عند حدّه، وكي يضع حدًا لعنجهيته تسلطه وتحكمه برقاب مواطني ارض الله المعذبين في اراضيهم. واذكر هنا بكثير من المحبة أن صاحب الرواية تمكن بحرفية كاتب شعر بانه دنا من لحظاته الاخيرة وبان نهايته باتت قاب قوسين او ادنى، تمكن من توظيف الاستعارات الادبية، واسترسل في جو سردي مميز، عارضًا الابعاد والآفاق القريبة والبعيدة لمعاناة الاهل، الاخوان والخلان، وذلك بأسلوب ادبي صاف، اراه جديرًا بالدراسة والمراجعة، وربما كانت هذه فرصة سانحة لأن اتوجه الى دارسٍ ادبي أو باحث طالبًا منه ان يُجري دراسة في هذه الرواية.. يتغلغل فيها إلى اعماقها ويتجوّل في مرتفعاتها الشاهقة العالية، ليقدّم لنا قراءة خاصة لها، قد تنور قارئها وقد تضع كاتبها في مكانه المناسب الذي استحقه بجدارة. 
استوقفني في هذه الروية فصلٌ خاص، اعتقد أنه من الصعب على قارئه ان ينساه، فهو يشبه تلك الفصول اللافتة، التي نقرأها مرة فتلح علينا كل مرة.. وكلّما وقع امر ما.. ذكّرنا بها. يغترف حسين في هذا الفصل من الحكاية الشعبية الفلسطينية، ويقدُم لنا فيه صورة لـ " القرينة"، او الغولة، التي طالما ارعبتنا، وتخيلنا انها تأتي الينا ذات عتمة على حين غرة، لتتخذ مجلسها وراءنا على مطيتنا، ولتوقف انفاسنا، خلال لحظات تُشبه الدهور، فلا نعرف ماذا بإمكاننا أن نفعل وقد انتابنا شعور قاتل بان لحظاتنا الاخيرة قد دنت، وما علينا والحالة هذه إلا أن نتوقف نحن وانفاسنا على بوابات البرزخ الفاصل بين الجنة والنار شاعرين بلسع الوجود وامل الخلود. لقد حبس هذا الفصل انفاسي لما حفل به من عُمق الوصف واتساع الرؤية، وهو ما جعلني اشعر انني إنما اعيش لحظةَ رعبٍ لم ارَ ابعادها جيدًا الا يوم بلغني رحيل اخي وصديقي كاتبها ومُسجل فصولها وتفاصيلها.
طوال وقت قراءتي ما تيسّر من فصول هذه الرواية، الوداعية الاخيرة لصاحبها، وتعمقي في قراءة فصولها الشائقة، خاصة الفصل المشار إليه آنفًا، كنت افكر في عنوان هذه الرواية.. فهل اراد حسين ان يهبنا في ايامه الاخيرة، برؤية رجل يودع الحياة ويرى ان لون زهورها في لحظاته الاخيرة بيننا بات مختلفا، كما حصل مع حلاج الشاعر المصري العربي صلاح عبد الصبور في مسرحيته المشهورة عن مأساة الحلاج؟ اقول هل اراد "هذا الرجل"، ان يلفتنا إلى مفتاح الكنز، او مفتاح الوعي والادراك، لنعي وجودنا في ربوع هذه البلاد الظالمة؟.. هل اراد ان يترك بيدنا وصية انسان مُحبٍ اولًا وكاتب مسؤول ثانيًا.. تمكننا من رؤية ما اراد ان يلفتنا اليه. سواء اراد فقيدنا العزيز الغالي هذا او ذاك، فقد وقعت عينُه ثاقبةُ الرؤيةِ على مفتاح الكنز، فغمز ولمز.. وقال لنا إن مفتاح الكنز هناك.. معكم وتحت اقدامكم موجود.. ولا يحتاج إلا أن تفتحوا عيونكم لتروه.. كما رأيته انا.