الرئيسية مقالات

الإنكار الجماعي: المجتمع الإسرائيلي في مواجهة غزة 

محمد دراوشة
نُشر: 20/08/25 10:27
الإنكار الجماعي: المجتمع الإسرائيلي في مواجهة غزة 

منذ السابع من أكتوبر 2023، يعيش المجتمع الإسرائيلي حالة من الصدمة العميقة. الهجوم الذي شنته حركة حماس خلّف جراحًا نفسية عميقة، وأعاد تشكيل الوعي الجمعي الإسرائيلي حول مفاهيم الأمن، الخوف، والعدالة. لكن ما تلا ذلك من ردّ عسكري واسع على قطاع غزة كشف عن ظاهرة أخطر: الإنكار الجماعي، والتبلد العاطفي تجاه معاناة الآخر.
في خضم مشاعر الغضب والانتقام، اختار كثيرون في إسرائيل التمسك بسردية "الحق الأخلاقي"، متجاهلين صور الدمار، الجوع، والنزوح الجماعي الذي يعيشه ملايين الفلسطينيين في غزة. وسائل الإعلام الإسرائيلية، في معظمها، امتنعت عن عرض الصور القاسية، وفضّلت التركيز على روايات البطولة والألم الإسرائيلي. هذا التعتيم الإعلامي ساهم في بناء جدار نفسي بين المجتمع الإسرائيلي والواقع الإنساني في غزة، حتى باتت مشاهد القصف والدمار تُستقبل بلامبالاة، أو تُبرر بسهولة تحت شعار "الدفاع عن النفس".
الخطاب العام في إسرائيل شهد انزياحًا نحو التطرف. أفكار كانت تُعتبر هامشية، مثل التهجير الجماعي، تعميق الاحتلال، أو إعادة الاستيطان في غزة، أصبحت تُناقش علنًا في الإعلام والكنيست، بل وتلقى دعمًا شعبيًا متزايدًا. هذا التحول لا يعكس فقط تغيرًا سياسيًا، بل يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة: غياب القدرة على التعاطف، وانهيار الحواجز النفسية أمام العنف الجماعي.
هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها. في الولايات المتحدة، خلال حرب فيتنام، عاش المجتمع الأمريكي حالة مشابهة من الإنكار. رغم الصور المروعة التي كانت تصل من ساحات القتال — أطفال يحترقون بالنابالم، قرى تُدمّر بالكامل — استمر كثيرون في دعم الحرب، متمسكين بسردية "محاربة الشيوعية" و"الدفاع عن الحرية". احتاج الأمر سنوات طويلة، وحركات احتجاجية ضخمة، حتى بدأ المجتمع الأمريكي يواجه الحقيقة ويعيد النظر في دوره ومسؤوليته.
الإنكار الجماعي ليس مجرد غياب للمعلومات، بل هو آلية نفسية جماعية تُبنى على الخوف، وعلى الرغبة في الحفاظ على صورة الذات كضحية أو كمُحقة دائمًا. لكنه أيضًا خطر وجودي — لأنه يهدد قدرة المجتمع على النقد الذاتي، وعلى بناء مستقبل أكثر عدالة وإنسانية.
إذا أراد المجتمع الإسرائيلي الحفاظ على قيمه، فعليه أن يستيقظ من هذا الحلم — وينظر إلى الواقع بعين مفتوحة. ليس من باب الشعور بالذنب، بل من باب المسؤولية. ليس من ضعف، بل من شجاعة أخلاقية وإنسانية. فالقوة الحقيقية لا تُقاس بكمية الذخيرة أو عدد الطائرات، بل بالقدرة على الوقوف في وجه التيار عندما ينحرف عن المبادئ، وبالقدرة على قول "لا" عندما يتحول الألم إلى مبرر للانتقام الأعمى.
وهنا يأتي دور الجهات الواعية داخل المجتمع الإسرائيلي — الأكاديميين، الصحفيين، الفنانين، رجال الدين، النشطاء، وحتى الجنود السابقين الذين يعرفون ثمن الحرب الحقيقي. هؤلاء يحملون على عاتقهم مسؤولية تاريخية: أن يرفعوا الصوت، أن يطرحوا الأسئلة الصعبة، وأن يواجهوا ثقافة الإنكار التي تتغلغل في كل زاوية من الخطاب العام.
المطلوب ليس ثورة، بل يقظة. المطلوب ليس عداء، بل نظره نحو العدالة، نحو التعاطف، ونحو مستقبل لا يُبنى على أنقاض الآخر. المطلوب أن تتحول هذه الفئة الواعية إلى ضمير حي، يذكّر المجتمع بأن الأمن لا يتحقق بالقوة وحدها، بل بالاعتراف بالإنسانية المشتركة، وبالقدرة على رؤية الآخر كإنسان، لا كتهديد دائم.
لقد أثبت التاريخ أن المجتمعات التي تجرأت على مواجهة أخطائها، ورفضت الانجرار وراء خطاب الكراهية، كانت أكثر قدرة على التعافي، وأكثر استعدادًا لبناء سلام حقيقي. فهل يملك المجتمع الإسرائيلي هذا القدر من الشجاعة؟ وهل ستنهض الأصوات العاقلة لتأخذ زمام المبادرة قبل أن يُغلق باب الأمل؟
الوقت لا ينتظر، والدماء لا تُمحى بالصمت. إنها لحظة الحقيقة — فإما أن يُكتب فصل جديد من التعاطف والمسؤولية، أو أن يستمر الانحدار نحو مزيد من العنف والإنكار.