الرئيسية شعر

الشعر في زمن الفيسبوك والواتساب وتحوّلات صورة الشاعر العربي في الداخل الإسرائيلي

د. أحمد ناصر
نُشر: 16/08/25 14:06
الشعر في زمن الفيسبوك والواتساب وتحوّلات صورة الشاعر العربي في الداخل الإسرائيلي

لم يعد الشعر العربي في زماننا مجرّد ديوان يُطبع أو أمسية تقليدية تُقام في قاعة ثقافية، بل صار جزءًا من الفضاء الرقمي اليومي، يتنقّل بين الشاشات المحوسبة والهواتف النقّالة، يتقاسمه الناس كما يتقاسمون صورهم وتعليقاتهم العابرة. "فيسبوك وواتساب" تحوّلا إلى منصات جديدة لولادة النصوص الشعرية وانتشارها، حيث يكتب الشاعر يجول في صدره ومباشرة يجد أمامه قارئًا يتفاعل، يعلّق، أو يعيد النشر. هذا التغيّر الجذري في طريقة إنتاج النص وتلقيه انعكس مباشرة على صورة الشاعر العربي بعامة، والشاعر الفلسطيني في الداخل الإسرائيلي بشكل خاص، وبدأ يطرح أسئلة نقدية عميقة حول القيمة الأدبية، واستمرارية النص، وحدود التفرد الفني.

ففي السياق الفلسطيني داخل إسرائيل، ظل الشعر منذ عقود مساحة للصوت المقموع، من محمود درويش وسميح القاسم إلى راشد حسين وتوفيق زيّاد، وقد ارتبط الشاعر بصورة "المتفرّد"، حامل الذاكرة والهوية، الذي يقف في مواجهة السلطة والمجتمع معًا. لكن مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، انكسرت هذه الصورة الكلاسيكية، إذ لم يعد الشاعر يقف على المنبر أو يطل من صفحات كتاب مطبوع، بل صار حاضرًا على الشاشة الصغيرة، ينشر مقطعه الشعري إلى جانب عشرات النصوص والآراء اليومية. وهكذا لم يعد الشاعر بعيدًا في مقام رمزي، بل صار قريبًا، بشريًا، يتفاعل مع جمهوره كصديق في قائمة الدردشة.

هذه النقلة منحت الشعراء الشباب في الداخل فرصة كبيرة للظهور من خارج المؤسسات الرسمية التي كثيرًا ما أُغلقت في وجوههم. فالكلمة باتت تصل مباشرة إلى القرّاء من دون وساطة نقدية أو إعلامية، وهو ما ساهم في بروز أصوات جديدة قادرة على التعبير عن قضايا الجيل المعاصر: قضايا الهوية المركبة، الاغتراب داخل الوطن، الحنين إلى الجذور، والتوتر اليومي مع منظومة السلطة وغيرها. لقد فتحت هذه المنصات فضاءً ديمقراطيًا جديدًا مكّن الموهوبين من التعبير، لكن هذه الديمقراطية نفسها جعلت النصوص تتزاحم وتتداخل إلى حد يصعب معه التمييز بين الشعر العميق والكلام العابر.

ومع ذلك، فإن ما يكتبه شعراء الداخل على فيسبوك وواتساب لا يمكن الاستهانة به. فالكثير منهم يعيد إحياء وظيفة الشعر كمساحة للمقاومة الرمزية، لكن بلغة جديدة تتناسب مع جيل شاب يتنفس عبر الشاشات. أسماء مثل الشاعر سلمان مصالحة، الذي يجمع بين العربية والعبرية في كتاباته، أو شعراء متمرسون مثل: حسين جبارة، أسامة مصاروة ، سامي مهنا، محمود ريان، مقبولة عبد الحليم، فاتن مصاروة، آيات أبو شميس، درين طاطور، نِداء خوري، أسماء عزايزة، ميساء الصِّح وآخرين ممن جعلوا من صفحاتهم فضاءً شعريًا مفتوحًا، يقدّمون نموذجًا على تحوّل النص الشعري إلى جسر بين الهويّة الخاصة والانفتاح على الآخر. بل يمكن القول إن الشاعر الفلسطيني في الداخل حين يكتب على فيسبوك أو يرسل مقطعًا عبر واتساب، فإنه يعلن وجوده في الفضاء العام بلغة لا تستطيع الرقابة الرسمية السيطرة عليها بسهولة، وفي هذا بُعد رمزي مهم.

غير أن لهذه الظاهرة وجهًا آخر يستحق النقد. فالنص الشعري الذي كان يُصقل طويلًا قبل أن يرى النور صار يولد بسرعة ويموت بسرعة أكبر. كثير من القصائد تتحول إلى ومضات سريعة، تُستهلك ثم تُنسى وسط طوفان المنشورات. هنا يطرح السؤال: هل يظل الشعر شعرًا حين يفقد خاصية التأمل والخلود، أم أنه يتحوّل إلى شكل جديد من الكتابة اليومية، أقرب إلى الهمس الجماعي منه إلى الصوت الفريد؟

لقد غيّرت وسائل التواصل مفهوم الشاعر العربي في الداخل: من رمز جماعي مقدّس إلى فرد يعيش قلقه اليومي بين الآخرين، يكتب لهم ومعهم، ويترك نصه مفتوحًا للتأويل والتفاعل. وهذا التغيير ليس بالضرورة سلبيًا؛ فهو يعكس تحوّلًا في الثقافة نفسها، حيث صار الأدب فعل مشاركة لا فعل عزلة. وفي زمن يتعرض فيه الفلسطيني في الداخل لضغوطات الهوية والسياسة والتهميش، فإن هذا الانفتاح يمنح للشعر حياة جديدة، وإن كانت مختلفة عمّا عرفناه من قبل.

إن الكلمة في فضاءات الفيسبوك والواتساب قد تكون عابرة، لكنها تظل محمّلة بطاقة رمزية، تؤكد أن الشاعر العربي في الداخل ما زال يحفر مكانه وسط العاصفة، حتى لو كانت وسيلته هذه المرة شاشة صغيرة بدلاً من منبر أو ديوان مطبوع. وبين الزوال الرقمي والخلود الكلاسيكي، يقف الشعر اليوم عند مفترق طرق، يبحث عن توازن جديد يضمن له الاستمرار، ويعيد للشاعر مكانته كحارس للذاكرة وناطق بالوجدان الجمعي، وإن كان بلغة أكثر قربًا من نبض الناس.

الطيرة - 16.8.2025