الرئيسية خاطرة

حين تصير الكلمة بيتًا من نعمة

رانية مرجية
نُشر: 15/08/25 23:25
حين تصير الكلمة بيتًا من نعمة

في عالم يضجّ بالصوت العالي، وتتصارع فيه المنصات على سرعة البثّ أكثر من جودة المضمون، تضيع أحيانًا أبسط القيم الإنسانية: قيمة الكلمة الطيبة. نحن نعيش زمنًا يُقاس فيه التأثير بعدد الإعجابات والمشاهدات، حتى صار كثيرون يطلقون كلماتهم بلا حساب، غير مدركين أن أثرها قد يبقى في قلب إنسان لسنوات، إمّا نورًا يضيء طريقه، أو ندبة لا تلتئم.

في هذا الزخم، تأتي وصية الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس كصرخة ضمير:
"لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم، بل كل ما كان صالحًا للبنيان، حسب الحاجة، كي يعطي نعمة للسامعين" (أفسس 4: 29).

هذه الآية ليست مجرد توجيه روحي، بل ميثاق حياة يصلح لكل زمان ومكان. فهي تضع الكلمة في ميزان القيم، وتجعل منها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون فعلًا لغويًا. الكلمة ليست مجرد أصوات، إنها طاقة؛ إمّا أن تشيد إنسانًا، أو تهدمه، إمّا أن تكون كالماء العذب في صحراء عطشى، أو كالرماد الذي يخنق النبض.

الكلمة الرديّة ليست فقط شتيمة أو سبًّا صريحًا، بل هي كل ما يثبط العزيمة، أو يحبط الروح، أو يزرع الشك في النفس. قد تأتي في صورة سخرية مستترة، أو تلميح جارح، أو حتى صمت متعمد في لحظة يحتاج فيها الآخر إلى كلمة دفء. على النقيض، الكلمة الصالحة هي التي تأتي في وقتها، بصدق وحكمة، فتكون كنسمة في قيظ الظهيرة، أو كضوء يبدد ظلمة القلوب.

هذه الدعوة النبوية تنبهنا إلى أثر ما نقول؛ فاللسان كما وصفه الكتاب المقدس “نار”، وقد تحرق إن لم تُضبط، وقد تضيء إن أُحسن استخدامها. الكلمة التي تُبنى على النعمة تُصبح جسرًا نحو الآخر، وجدارًا يحميه من رياح اليأس. هي ليست مجرد إطراء أو مجاملة، بل عمل بنّاء يتطلب صفاء القلب ورحابة الصدر.

ومن عمق الوصية يطلّ الجمع بين البنيان والنعمة. فالبنيان هو الفعل الملموس، والنعمة هي الروح التي تُحيي هذا الفعل. الكلمة التي تبني بلا نعمة قد تُقنع العقل لكنها لا تمس القلب، أما الكلمة المشبعة بالنعمة فهي التي تترك أثرًا لا يُمحى، وتبقى في الذاكرة كما تبقى رائحة الوردة بعد أن تذبل.

التحدي الحقيقي هو أن نمارس هذه الآية كأسلوب حياة: أن نزن كلماتنا قبل أن ننطقها، أن نسأل أنفسنا: هل ما سأقوله الآن سيبني؟ هل سيضيف قيمة؟ هل سيمنح السامع قوة أو بصيرة أو رجاء؟ لأن الإنسان قد ينسى الأفعال، لكنه نادرًا ما ينسى الكلمات التي لامست قلبه، سواء كانت طيبة أو جارحة.

وفي زمن امتلأ بالصخب والانفعال، تصبح العودة إلى هذه الوصية دعوة إلى تهذيب الخطاب، وإلى صناعة لغة تُرمم ما تهدّم، وتعيد وصل ما انقطع بين البشر. فاللسان يمكن أن يكون أداة سلام أو أداة نزاع، ونحن من نختار.