الرئيسية مقالات

معركة الوعي والعمل - كيف نحوّل مآسينا إلى قوّة دافعة نحو التغيير؟

صفوت فريج
نُشر: 15/08/25 21:53
معركة الوعي والعمل - كيف نحوّل مآسينا إلى قوّة دافعة نحو التغيير؟

في صباح واحد، قد تنهال عليك أقصى ما في الدنيا من أخبار في آنٍ واحد: سقوط شابّ من بلدتنا برصاص مجهول في شارع قريب، وخبر أمّ تُودّع أبناءها تحت القصف في غزّة. تتداخل الأصوات، بكاء هنا وأنين هناك، وأخبار متلاحقة لا تمنحك فرصة لالتقاط أنفاسك. كأنّنا نعيش في زمنٍ اختلط فيه الدم بالتراب، والظلم بالصمت، واليأس بالاعتياد.

في إسرائيل، يدير دفّة الحكم مشروع فاشي فاشل، يقتل ويبطش ويؤذي العربي حيًّا وميتًا، حكومة لا تتوّرع عن استخدام أقصى وأقسى درجات القمع والإقصاء، بلا وازع ولا حدود. هذا المشروع المظلم لا يواجَه إلّا بمشروع حضاري مضادّ، مشروع يبعث الأمل في قلوب الناس وعقولهم، ويستنهض الهمم والطاقات للبناء والعمل، ويغرس اليقين بأنّ الغد أفضل. الهدم يواجَه بالبناء، والتثبيط بالأمل والتفاؤل، والكراهية بخطاب المحبّة والسلام، والإقصاء بمشروعٍ جامع يُعيد للناس ثقتهم بقدراتهم على صناعة واقعٍ جديد.

كثيرة هي التحدّيات الّتي تحاصر الفرد والمجتمع في هذه الأيّام، حتّى أصبحت حياتنا مشوّشة، يختلط فيها وقع الجريمة برائحة الدم، وصوت الحرب بأنين الجوع، وحقيقة الواقع بسُمّ التضليل.

في مجتمعنا العربي، نشهد بأعيننا كيف تحصد الجريمة أرواح شبابنا، وكيف يُستنزَف أمننا الداخلي بفعل منظومات إجراميّة منظَّمة، بينما غزة يُحاصر أهلها حتّى في لقمة العيش، ويُقصَفون بلا رحمة في مشهد إبادة بشع.

كثيرون يرون هذه الصورة بوضوح، يفكّكون مشاهدها، ويحلّلون خيوطها وأبعادها. لكن الخطر الأكبر ليس في الجهل بما يجري، بل في أن نكتفي بالمعرفة وكأنّها غاية بحدّ ذاتها. فالمعرفة إن لم تتحوّل إلى فعلٍ منظّم واعٍ، تبقى مجرّد سردٍ للألم، تتراكم على رفوف العجز، والأسوأ أن تتحوّل إلى استسلام ذهني يقتل فينا روح المبادرة، نكتفي حينها بوصف الجرح دون أن نسعى لمداواته. صدق المتنبّي حين قال: "ولم أرَ في عيوبِ الناس شيئًا، كنقصِ القادرين على التمامِ"، ونعم نحن قادرون.

إن المصائب والتحدّيات، على اختلاف أشكالها، لا يوقفها إلّا مشروع مضاد يواجهها بوعيٍ وإرادة. مشروعٌ -على المستوى الفردي- يرفع وعيك، يحصّن سلوكك، ويجعلك جزءًا من الحلّ لا امتدادًا للمشكلة. مشروعٌ يُعيد ترتيب أولويّاتك، ويجعلك أكثر وعيًا بخطابك، أفعالك، وأثرها في محيطك. ثمّ على المستوى الجماعي، مشروعٌ يوحّد طاقات الناس في مسار بديل، فيواجه الجريمة بالتربية والاحتضان المجتمعي، ويكسر حلقة التجويع بالتكافل العملي، ويقاوِم الإبادة بإبقاء صوتنا ووعينا وأفعالنا حيّة ومؤثّرة، قال تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ". لا يكفي أن نعرف الخطر، بل علينا أن نُقيم أمامه مشروعًا قادرًا على إضعافه، وخلق مسارٍ جديد يزرع الأمل ويصنع التغيير.

لسنا أمام خيار الترف الفكري أو التحليل البارد، فنحن في معركة وجود. والرد الحقيقي لا يكون بردة فعل عابرة، بل ببناء مشروع حضاري يستنزف مشروع الخصم، ويزرع في أرضنا وأهلنا مقومات البقاء والنهضة.

لسنا أمام خيار الترف الفكري أو التحليل البارد، نحن في معركة وجود، حيث البقاء مرهون بقدرتنا على بناء ردٍّ يرقى إلى حجم التحدّي. ردٌّ لا يُختزل في ردّة فعل عابرة، بل بمشروع حضاري متكامل، يستنزف مشروع الخصم على المدى البعيد، ويزرع في أرضنا وأهلنا مقوّمات البقاء، وأسس النهضة والتمكين. عندها وعندها فقط، تتحوّل معرفتنا بالتحدّيات من عبءٍ ينهك النفس، إلى طاقة دافعة، ويصبح وعينا نقطة انطلاق لصناعة مستقبل لا تتحكّم بملامحه أيدي أعدائنا.