بناء "الهيكل": من "الوهم" إلى "الواقع" في قلب النقاش الإسرائيلي الراهن

نشرت صحيفة "هآرتس" في ملحقها الأسبوعي الأخير تقريرًا طرحت فيه قضية بناء "الهيكل" مكان المسجد الأقصى المبارك كموضوع راهن يثير جدلًا واسعًا. حمل التقرير عنوانًا معبرًا: "الهيكل، نعم أم لا: نقاش راهن في برنامج إذاعي شعبي صباح يوم الاثنين"، مستعرضًا الحوار الذي جرى في صباح ذلك اليوم على إذاعة 103FM خلال ذروة البث التي تشهد أعلى نسب استماع، بمشاركة بن كسبيت وينون مغال. وسط تفاعل مئات آلاف المستمعين، تركز النقاش حول سؤال مركزي: هل سيُبنى "الهيكل" أم لا؟ كما تطرق الحوار إلى التداعيات المحتملة في حال تحقق هذا المشروع.
في صلب النقاش تبرز تصورات متباينة تتقاطع فيها "العقلانية السياسية" مع اللاهوت والنبوءات التوراتية. يمثل التيار المتطرف في الحوار الصحفي ينون مغال، المعروف بأفكاره المسيانية وتصريحاته المثيرة للجدل، من إقراره بتلقي أموال لحملة دعائية لوزير المالية سموتريتش، إلى تصريحاته العنصرية التي أثارت استياءً واسعًا، لا سيّما تجاه أهالي طمرة خلال الحرب الإيرانية-الإسرائيلية قبل أشهر قليلة. مغال لا ينظر إلى بناء "الهيكل" كاحتمال بسيط، بل كوعود إلهي حتمي تستند إلى نبوءات توراتية، رغم غموض الجدول الزمني لتحقيق ذلك.
في المقابل، يقف بن كسبيت كصوت "العقلانية" والشك، وهو صحفي ومعلق سياسي بارز يسعى عبر منطق التجربة السياسية لتفكيك هذه الأفكار المتطرفة. غير أن مأزقه يكمن في أن إضفاء الشرعية على النقاش يجعل فكرة بناء "الهيكل" أمرًا مقبولًا وواقعيًا في ذهن الجمهور. وهذا المأزق لا يعفيه من المسؤولية المهنية؛ إذ لا يكفي تبرير تداول مثل هذه القضايا الحساسة بحجة حرية التعبير أو الحياد الإعلامي. فبالرغم من التفاوت في مواقف وسائل الإعلام الإسرائيلية، تظل جميعها تصب في خانة ترسيخ رواية تسعى إلى تطبيع الفكرة تدريجيًا، مما يمهد لتحول ما كان يُعتبر "جنونًا" أو "خرافة" إلى مشروع سياسي واجتماعي على أرض الواقع.
لم يعد الحديث عن بناء "الهيكل" حلمًا بعيد المنال، بل صار سؤالًا جديًا يُطرح يوميًا في برامج إذاعية ذات جمهور واسع، ما يعكس تحولات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، حيث أصبح موضوع "الهيكل" جزءًا من الخطاب اليومي، وكأنه قضية واقعية لا تنفصل عن مستقبل الدولة.
يُبرز تقرير "هآرتس" انقسامًا في الخطاب الإسرائيلي بين "الجزء الطبيعي" من المجتمع، الذي يلتزم بالواقع السياسي التقليدي، و"الجزء غير الطبيعي" الذي يُصر على طرح أفكار كانت تُعتبر سابقًا خارج السياق أو حتى "جنونية". المفارقة أن هذا الجزء "غير الطبيعي" نجح في إعادة تعريف نفسه كـ"الطبيعي"، مما غيّر بشكل جذري مفاهيم الواقع السياسي والاجتماعي برمته. ونتيجة لهذا التحول، أصبحت القضايا التي كانت تُعد هذيانية مثل بناء "الهيكل" تُناقش الآن كأمر محتمل وحتمي، مع طرح تساؤلات جادة حول توقيت تحقيقها.
في ختام النقاش الإذاعي، واصل بن كسبيت محاولاته "العقلانية" قائلًا: "إقامة "الهيكل" مجرد حدث هندسي ولوجستي، لكنه لن يحدث". إلا أن مغال رد بثقة عالية: "في النهاية، الشعب اليهودي صمد ألفي سنة رغم كل الاحتمالات. هذا ليس أمرًا طبيعيًا، والواقع أنه حدث كما تعد النبوءة".
في ظل هذا المناخ المتصاعد، وبحسب السيناريو المتوقع الذي أورده تقرير "هآرتس"، تستعد انتخابات 2026 لحملات انتخابية تحمل في طياتها نفس الرؤية الطموحة لبناء "الهيكل". حيث يروج حزب "القوة اليهودية" إلى جانب "الصهيونية الدينية" و"الليكود" لحملة تهدف إلى إنجاز هذا المشروع بحلول أكتوبر 2029. في المقابل، يعبر بعض القادة السياسيين الإسرائيليين عن رفضهم القاطع لهذه الفكرة؛ يائير غولان يصفها بـ"الهذيان"، ويائير لابيد يعتبرها "جنونًا"، بينما يرى أفيغدور ليبرمان أن "إسرائيل فقدت عقولها"، ويقول بيني غانتس: "أحترم الفكرة، لكن ليس في هذا الوقت".
وفي مؤشر ملموس على تقدم المشروع، شهد يناير 2027 شحن مئات من أشجار الأرز وحجارة البازلت باتجاه القدس، مشهد يشي بأن خطوات تنفيذية جادة باتت قيد التنفيذ.
هنا قد ينتهي النقاش الإعلامي المباشر، لكن الواقع السياسي والاجتماعي في إسرائيل يبقى هشًا ومتوترًا، وسط تصاعد المخاطر التي قد تجر المنطقة بأسرها إلى أزمات متشابكة، على خلفية هذه القضية التي تمس جوهر الصراع الديني والتاريخي في القدس والمسجد الأقصى.
وليس بعيدًا عن حلم بناء "الهيكل"، ولا عن تقارير صحيفة "هآرتس"، فقد نشرت الصحيفة قبل نحو عام تقريرًا بعنوان بارز: "من يظن أن إيتمار بن غفير وأتباعه يريدون فقط الصلاة في "جبل الهيكل"، يقع في الفخ. فالخطة الكبرى جارية بالفعل". ومرة أخرى، مجرد أن تتبنى وسيلة إعلامية إسرائيلية تُعد من "العقلانية" و"اليسارية" مصطلح "هار هبيت" (جبل الهيكل)، ندرك أننا أمام معركة على الوعي وحرب سرديات مبنية أساسًا على قناعات دينية لا سياسية، تشترك فيها جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية بلا استثناء. فالتقرير يرسم صورة شاملة لمشروع صهيوني مسياني ممنهج يهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الدينية والسياسية في القدس، عبر فرض الهيمنة اليهودية الكاملة على المسجد الأقصى، حيث تتجاوز مطالب الصلاة وإقامة كنيس رموزًا دينية لتتحول إلى خطوات عملية ضمن خطة منظمة يقودها وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وحركته، تشمل تدريب الكهنة، وتجهيز المذابح، وتربية بقرة حمراء مقدسة، تمهيدًا لهدم المسجد الأقصى وبناء "الهيكل الثالث".
عمليًا، يعكس النقاش بين "الجنون" و"المنطق"، الذي بات يحظى بشرعية متزايدة عبر خطاب يستهدف كل فئات المجتمع الإسرائيلي ويكسب دعمًا حكوميًا ومؤسساتيًا، الحالة النفسية المعقدة في إسرائيل، التي تمزج بين نرجسية يهودية مدعومة بجنون عظمة مسياني، ما يجعل الخطابات المتطرفة والمشاريع الاستيطانية تبدو كمصير مسياني لا مفر منه. كما أن الواقع السياسي يدعم هذه الاتجاهات المتطرفة، حيث تعلن أحزاب دينية وصهيونية عن خطط ملموسة لبناء "الهيكل"، وتشهد القدس تحضيرات عملية ونقلًا لمواد البناء، ما يحول الفكرة إلى مشروع قابل للتنفيذ.
في هذا الإطار، يفسر التركيز الحالي على بناء "الهيكل" بدلًا من المسجد الأقصى تصاعدًا سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا وإعلاميًا يقرب من تحقيق المشروع، الذي يحمل تداعيات أمنية ودينية جسيمة في بيئة إقليمية متوترة، ويضع المنطقة أمام تحديات وصراعات محتملة جديدة. ومن ثم، فإن التقليل من خطورة هذا المشروع يشكل مغامرة تنذر بصراعات دينية وأمنية بالغة الخطورة.