الرئيسية قصة

بين أسوار المعبد وحدود الروح: قراءة وجدانية في رواية دينا سليم سقوط المعبد الأخير

رانية فؤاد مرجية
نُشر: 12/08/25 14:17
بين أسوار المعبد وحدود الروح: قراءة وجدانية في رواية دينا سليم سقوط المعبد الأخير

مدخل: حين ينهار الحجر وتبقى الأسئلة

رواية "سقوط المعبد الأخير" للكاتبة دينا سليم حنحن ليست نصًا يُقرأ على عجل، بل نص يفرض عليك الإقامة في مساحاته، يستدعيك إلى عزلة البطلة، ويحبسك معها في الممرات الباردة التي تعبق برائحة الرطوبة وأصوات النواقيس المتعبة. إنها رواية عن السقوط، لا كسقوط حجارة المعبد فحسب، بل كسقوط الرموز، وسقوط الطمأنينة، وسقوط الإجابات الجاهزة في زمن الأسئلة الفادحة.

المعبد كسجن روحي :منذ الصفحات الأولى، يُشيّد النص عالمًا مغلقًا، محكومًا بجدران عالية وأسوار تحجب الأفق. المعبد هنا ليس مكان عبادة فحسب، بل منظومة سلطوية روحية واجتماعية تُفرَض على الجسد والروح. تقول الراوية:

"أصبحت نزيلـة وحيدة في حجـرة كئيبة بنافذة واحدة، سقفها منخفض وبابها ضيق، حجـرة خابية، خمدت فيها الحياة."

البطلة أودينيـل تعيش داخل هذه الأسوار ككائن نصف حي، تتنفس هواءً مشبعًا بالتراتيل والحرمان، لكنها في الوقت ذاته تحمل في أعماقها بذور الشك والرغبة في الخروج.

الطهارة أم الحرية؟ معضلة أودينيـل: أكثر ما يلمس القارئ هو الصراع الداخلي الذي تعيشه البطلة: أن تبقى في المعبد محافظةً على طهارتها، أم تخرج إلى العالم الذي قد يسلبها هذه الطهارة. تقول: "أنا طاهرة، أنا مثل الملائكة، لكني أخشى العقوبة… العقوبة الإلهية وعقوبة الآخرين."

هذه الجملة تكثف معضلة الرواية: الطهارة هنا ليست مجرد قيمة روحية، بل قيد ثقيل يجعل البطلة تسائل ذاتها: هل الفضيلة تكتمل بالعزلة؟ وهل الحرية تستحق ثمن السقوط؟

الشخصيات كأصوات داخلية

الرواية تزخر بشخصيات ثانوية تحمل أبعادًا رمزية عميقة:

العم نور، بملامحه الحزينة وصمته المشوب بالحنان، ظلّ الأب الغائب الحاضر.

أم هذا، العجوز الغامضة التي تمارس طقوسًا غريبة، تمزج بين البركة والرهبة:

"قصّت بعض الشعرات من جبهتها الأمامية، وضعتها على قمة هرم خشبي، ثم تمتمت بكلمات غير مفهومة."

الأطفال اليتامى، الذين يذكّرون البطلة دومًا بجذورها المقطوعة.

سقوط المعبد كسقوط داخلي

العنوان "سقوط المعبد الأخير" لا يصف حدثًا ماديًا فقط، بل يشير إلى انهيار داخلي في وعي البطلة. المعبد هنا رمز للمنظومات المغلقة التي تسقط أمام رغبة الفرد في الخروج من القيد. تقول أودينيـل وهي تتأمل مصير صديقتها أليسا التي خرجت ولم تعد:

"هل يعقل أن كل من يخرج من صومعة المعبد يفقد طهارته؟ لن أخرج… ولـن أستسلم لأفكاري التعيسة."

لكن هذه المقاومة لا تمنع تسلل الحنين إلى المجهول، وكأن السقوط أصبح قدرًا ينتظر لحظة الانفلات.

لغة الرواية – الشعر في خدمة السرد

لغة دينا سليم مشحونة بالصور البصرية والحسية: الأشجار المغطاة بالثلوج حتى تصير كالزجاج، صوت الناقوس الذي يهز الجدران، الفراشات التي تهرب من اليد الصغيرة. من أجمل المقاطع التي تجسد قوة الوصف قولها:

"غطت الثلوج بتلات الأشجار، وأصبحت مثل الزجاج… وصوت الناقوس النحاسي يقرع بعنف، يتأرجح دون توقف."

الحوار قليل لكنه مكثف، والصمت يأخذ دور الراوي الخفي، فيما يقوم المونولوج الداخلي بحمل الرسالة الوجودية للنص.

خاتمة: ما بعد السقوط

"سقوط المعبد الأخير" ليست حكاية فتاة وحسب، بل مرثية لكل إنسان حُشر بين جدران صنعها لنفسه أو صنعها له الآخرون. المعبد قد يسقط، لكن الأسوار الداخلية قد تبقى، والأسئلة التي زرعتها الرواية ستظل تنبض في ذهن القارئ طويلًا:

"إلى متى سأبيت حبيسة الجدران… وماذا أنتظر؟"

بهذه الأسئلة المفتوحة، تمنحنا دينا سليم نصًا يصلح أن يُقرأ كاعتراف، وكحلم، وكصرخة في وجه كل سلطة تريد أن تُؤبِّد الإنسان في حجرته الضيقة.