اغتيال الحقيقة في غزة: أنس الشريف ومحمد قريقع شهيدا الكلمة والصورة

بقلم: محمد دراوشة
في مساء دامٍ جديد من أمسيات غزة، ارتكبت إسرائيل جريمة أخرى بحق الحقيقة، باستهداف خيمة الصحفيين أمام مستشفى الشفاء، ما أدى إلى استشهاد الصحفيين أنس الشريف ومحمد قريقع، مراسلي قناة الجزيرة، وإصابة آخرين. هذه ليست مجرد حادثة قصف، بل اغتيال متعمد لصوت الضحايا، ومحاولة لإسكات من يصرخون في وجه الظلم.
أنس الشريف، الذي كرّس حياته لنقل الصورة من قلب المأساة، لم يكن مجرد ناقل أخبار. كان شاهدًا على الجرح الفلسطيني، وراصدًا لسياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل بحق سكان غزة. قبل أيام فقط، وثّق أنس مشاهد الأطفال الذين يبحثون عن لقمة في ركام البيوت، والمرضى الذين يموتون بصمت في المستشفيات المحاصرة. لم يكن يحمل سلاحًا، بل كاميرا وضميرًا حيًا، وهذا ما جعله هدفًا لحملات تحريض قبل اغتياله.
أما محمد قريقع، فكان رفيق الميدان، يرافق أنس في كل زاوية من زوايا الألم، ينقل الصورة من داخل المستشفيات، من بين الأنقاض، ومن وجوه الأمهات الثكالى. استُشهدا معًا، كما عاشا معًا، في خندق الحقيقة.
هذه الجريمة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، في مسلسل استهداف الصحفيين الفلسطينيين. منذ بداية العدوان على غزة، قُتل أكثر من 200 صحفي وعامل في المجال الإعلامي، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الذي يُفترض أن يحمي الصحفيين كمدنيين. لكن في غزة، لا شيء محصّن من القتل، حتى الكلمة.
إن استهداف الصحفيين هو استهداف للحقيقة، ومحاولة لطمس الجرائم، ومنع العالم من رؤية ما يحدث. لكنه أيضًا دليل على أن الصورة والكلمة أقوى من الرصاصة، وأن من يحملها يُحسب له ألف حساب.
اليوم، نودّع أنس ومحمد، لا كأرقام في قائمة الشهداء، بل كرمزين للصحافة الحرة، وكأبطال نقلوا لنا الحقيقة من قلب الجحيم. نودّعهم ونحن نعلم أن الكاميرا التي سقطت من يد أنس، ستُحمل من جديد، وأن الصوت الذي خفت، سيُعاد صداه في كل من يؤمن بأن الكلمة مقاومة.
رحم الله الشهيدين، وأسكنهما فسيح جناته. ولتبقَ الحقيقة حيّة، ما دام هناك من يكتب، ومن يصوّر، ومن يرفض الصمت.