الدعاية السوداء لسَحَرة الإعلام: فِرية العلم الإسرائيلي نموذجًا

"في مشهد أثار الكثير من التساؤلات والجدل، نظمت الحركة الإسلامية – فرع الإخوان المسلمين في إسرائيل – يوم الخميس 31 تموز/يوليو 2025، تظاهرة أمام السفارة المصرية في تل أبيب، وهم يرفعون الأعلام الإسرائيلية، مطالبين بما وصفوه بـ"رفع الحصار المصري عن قطاع غزة".
هذا النص شكل مقدمة لخبر صحفي بثته وسيلة إعلامية مصرية تُعد من أذرع النظام الحاكم، ويكشف بوضوح توجه سَحَرة الإعلام المصري في توظيف الدعاية السوداء لتشويه صورة الخصوم السياسيين أو الشعوب المستهدفة، من خلال بث الشائعات وتحريف الوقائع. وتُعد هذه الأساليب جزءًا لا يتجزأ من أدوات الدعاية التي توظفها أجهزة المخابرات والأمن لتزييف الوعي والتحكم بسردية الأحداث.
إن مجرد اعتماد مثل هذه المقدمة في صياغة الخبر يكفي لفهم وظيفة الإعلام في إعادة توجيه انتباه القارئ وتحريف بوصلة الحدث، إذ إنها تُشكل الجزء الأكثر أهمية في الخبر، وتقدم ملخصًا مكثفًا ومُثيرًا حول الحدث الرئيسي، وتجيب على الأسئلة الصحفية الأساسية: ماذا حدث؟ من شارك؟ أين ومتى وقع؟ ولماذا؟ وكيف؟
في الواقع، لسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لتفنيد هذه الحملات الإعلامية السوداء، التي تهدف إلى تقويض صورة الجسم المستهدف، وزعزعة استقراره، والنيل من ثقته الجماهيرية، وذلك ضمن عملية اغتيال سياسي ممنهجة تديرها أجهزة الأمن والمخابرات المصرية.
فالحملة التي أطلقها إعلام النظام– وساندته فيها وسائل إعلام خليجية، وذباب إلكتروني، ومؤسسات وشخصيات دينية وأكاديمية، ومستويات سياسية متعددة– لم تقتصر على أذرع السلطة الرسمية، بل انخرطت فيها أيضًا أطياف وتيارات سياسية متباينة من داخل مصر وخارجها، ومن مختلف أماكن تواجد شعبنا الفلسطيني، بما في ذلك من داخل مجتمعنا في الداخل.
ورغم اختلاف النوايا والسياقات، إلا أن العديد من هذه الجهات وجدت في الحملة فرصة سانحة لتصفية حسابات سياسية، سواء بانخراط مباشر في سرديات الإعلام الرسمي وأكاذيبه، أو من خلال ركوب موجة الرفض التي أثارتها خطوة التظاهر أمام السفارة المصرية، انطلاقًا من اعتبارات ومسوغات خاصة، قد تكون مفهومة أو قابلة للنقاش، لكنها غير ملزمة للجميع.
وقد تحول هذا الرفض، في بعض حالاته، إلى منصة لتصفية حسابات سياسية وكيدية، تحت غطاء جماعي موحد، وكأن الجميع يضرب من قوس واحدة. وهنا لا بد من التمييز واستثناء الأصوات النقدية الصادقة والبنّاءة، التي عبرت عن مواقفها بمسؤولية ووعي، بعيدًا عن الاصطفافات، والانفعالات، والحسابات الضيقة. وهذه الأصوات، التي التزمت بالمبادئ وقدمت نقدًا نزيهًا، يحق لها أن تُحترم وتُقدر وتُسمَع، تقديرًا لموقفها المسؤول والشجاع.
وما يُثبت هشاشة هذه الرواية أن أي متابع بسيط– لا يحتاج إلى أن يكون خبيرًا أو محللًا– يمكنه بسهولة تفنيد فِرية رفع المتظاهرين العرب الفلسطينيين للأعلام الإسرائيلية أمام السفارة المصرية. فالواقع أن هذه الأعلام لم تُرفع من قِبل المشاركين العرب في التظاهرة، بل من قبل ثُلة من رعاع المستوطنين اليمينيين، الذين تظاهروا في المكان ذاته احتجاجًا على المظاهرة نفسها.
هذا فضلًا عن أن كاتب هذه السطور كان شاهد عيان، يقف على بُعد خطوات قليلة من أولئك المستوطنين والمستوطنات الذين لم يترددوا في إشهار أسلحتهم الفردية الظاهرة على خواصرهم، في استعراض واضح للترهيب. في المقابل، عمد الإعلام المصري ومن يسانده إلى تزوير الرواية، في مشهد فج لـ"السحر الإعلامي الأسود".
من أهداف حملات التشويه الإعلامي إلهاء الجمهور عن قضايا أكثر أهمية، وصرف الانتباه عن الحقائق الجوهرية. فقد سبقت المظاهرة التي نظمها اتحاد أئمة المساجد في الداخل الفلسطيني أمام السفارة المصرية في تل أبيب تحركات مماثلة حول العالم طالبت بفتح معبر رفح وإدخال المساعدات إلى غزة، التي تعاني من حرب إبادة وتجويع ممنهجة.
لكن النظام المصري، الذي يعيش منذ انقلابه على خيار الشعب في 2013 في حالة توجس وخوف دائمين، تعامل مع هذه التحركات كتهديد رمزي يستوجب التغطية عليه بحملات تشويه وإسكات.
ينبع هذا الخوف ليس فقط من ممارسات النظام القمعية، بل من هشاشة بنيته السلطوية التي تفتقر إلى شرعية شعبية حقيقية، إذ وصل إلى الحكم بالقوة العسكرية دون دعم دستوري أو جماهيري، ويدرك أن هذا الطريق قد يُستخدم ضده، ما يجعله يعيش في حالة هشاشة سياسية وأمنية وأخلاقية، ويعتمد على الإعلام لصناعة صورة زائفة عن القوة والاستقرار.
ومن هنا يمكن فهم ردود الفعل العنيفة والهستيرية لأزلام النظام تجاه المظاهرات التي شهدتها عدة سفارات، وخاصة أمام السفارة المصرية في تل أبيب. فالتظاهرة لم تكن احتجاجًا عاديًا، بل كسرت تابو التظاهر داخل "عاصمة العدو"، وكشفت التناقض الصارخ بين التنسيق الأمني الرسمي للنظام مع إسرائيل والاتهامات المستمرة التي يوجهها النظام للشعب والمعارضة بالخيانة.
يكمن سبب هذه الهستيريا في تحطيم التظاهرة لأحد أعمق التابوهات التي تُستخدم لتكميم الأصوات المعارضة، "العلاقة مع إسرائيل". فبينما يستمر التنسيق والتبادل مع إسرائيل، يُجرم النظام أي احتجاج شعبي داخل تل أبيب، حتى لو كان مطلبه إنسانيًا مشروعًا كفتح معبر رفح.
هذا التناقض يكشف أن العدو الحقيقي للنظام ليس الاحتلال، بل المواطنون الذين يكشفون هذا التناقض ويطالبون بمواقف إنسانية، مما أثار رد فعل هستيري استهدف الرسالة وليس فقط مكان التظاهرة.
لم يعد "سَحَرة الإعلام المصري" مجرد مروجين لرواية النظام، بل باتوا صناع سرديات مضللة تُفصل بعناية على مقاس الأجهزة الأمنية واحتياجات السلطة. لا يكتفون بتزييف الحقائق، بل يشنون حملات شيطنة ممنهجة تطال كل صوت مستقل، سواء كان معارضًا سياسيًا، أو صحفيًا حرًا، أو حتى مواطنًا بسيطًا عبر عن رأيه خارج سرب الدعاية الرسمية.
لقد تفوق هؤلاء في قدرتهم على التضليل وتشويه الخصوم، لدرجة تُنافس آلة الدعاية الصهيونية، إن لم تتفوق عليها. فبينما استغرق بناء السردية الصهيونية عقودًا، استطاع الإعلام المصري الرسمي في سنوات قليلة أن يُدمر الثقة الداخلية، ويشوه الوعي الوطني، ويخلق بيئة إعلامية مسمومة، تنشر الخوف وتغتال الحقيقة.
ومن يتأمل المشهد منذ ما قبل الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي في تموز 2013، سيجد أن الإعلام لعب الدور الأخطر؛ لم يكن ناقلًا للحدث، بل صانعًا للتهيئة النفسية والسياسية للانقلاب، عبر شيطنة الرئيس المنتخب، ووصم جماعة الإخوان المسلمين بـ"الإرهاب"، وتضخيم المخاوف في خطاب هيستيري قائم على التحريض والتخويف لا على الوقائع.
بهذا الخطاب المسموم، وفر الإعلام الغطاء الشعبي الكاذب لمجزرة رابعة والنهضة، وسوغ اعتقال آلاف المعارضين، بينهم نساء وقُصر وكبار سن، مع تعمد الإهمال الطبي والتعذيب الذي حصد أرواح الكثيرين منهم خلف القضبان، بينما ظلت أبواق الإعلام تصفهم بالخونة والعملاء.
إن مواجهة هذا الانحدار الإعلامي لا تكون فقط بتفنيد الأكاذيب، بل بإحياء قيم المصداقية والمساءلة، والعمل الجاد على بناء إعلام حر بديل، يحترم عقل الإنسان قبل أن يسعى للتأثير عليه. إعلام يرى في الحقيقة مسؤولية، وفي الكلمة الصادقة أداة مقاومة لا تقل شأنًا عن أي وسيلة نضال. وهنا يأتي دور كل إعلامي شريف، وكل صاحب منبر حر، وكل كلمة تُقال أو تُكتب بضمير حي، في مواجهة سَحَرة التضليل، دفاعًا عن الحقيقة، وعن حق الناس في معرفة الواقع كما هو، لا كما يُراد لهم أن يروه.