غزة.. جوع الشعب وشبع القيادة

في الوقت الذي يُصارع فيه سكان غزة الموت جوعًا، ويُحاصرون تحت أنقاض منازلهم بلا مأوى ولا دواء، تطفو على السطح تقارير تكشف نمط حياة مترفًا لقيادات حركة حماس، يعيشون فيه بلا حدود، بينما يُحرم منهم مليوني إنسان. الفارق الصارخ بين القيادة والشعب لم يعد مجرد شائعة تُتداول في زوايا المقاهي، بل تحوّل إلى حقيقة تؤكدها وثائق وحسابات مصرفية، تظهر امتلاك مسؤولين كبار لعقارات فاخرة في دول الجوار، ووصولهم غير المحدود إلى الغذاء والدواء، بينما يُقاسي الأطفال والنساء في خيام النزوح. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف يُمكن لقادة يدّعون تمثيل المقاومة والعدالة الاجتماعية أن يبرروا هذا الانفصال الأخلاقي عن واقع شعبهم؟
الحديث عن فساد حماس ليس جديدًا، لكنه اكتسب زخمًا غير مسبوق في ظل الحرب الإسرائيلية الأخيرة، التي بدأت في أكتوبر 2023 بعد عملية “طوفان الأقصى”. فبينما تُدمر غزة بالكامل، وتصل أسعار المواد الأساسية إلى مستويات خيالية، تُظهر وثائق مسربة – نُشرت مؤخرًا في وسائل إعلام عربية ودولية – أن عائلات بعض القيادات تعيش في فنادق فاخرة بمدن مثل الدوحة وإسطنبول، مع إيداعات مالية ضخمة في بنوك خارجية. بل إن بعض التقارير تشير إلى أن أموال المساعدات الإنسانية، المُخصصة أصلاً لإغاثة النازحين، يتم تحويلها إلى حسابات شخصية تحت ذرائع “التمويل السياسي.
هذا النمط من الفساد ليس عابرًا، بل هو نتاج بنية مؤسساتية داخل حماس تعتمد على الاقتصاد الأسود والتمويل غير الخاضع للمساءلة. فمنذ سيطرتها على غزة في 2007، حوّلت الحركة القطاع إلى كيان شبه منعزل، تسيطر فيه على المعابر والأنفاق، وتحتكر توزيع المساعدات عبر شبكة من المحسوبيات. حتى أن بعض التقارير المحلية تتحدث عن “ضرائب غير رسمية” تفرضها على التجار والمواطنين تحت مسميات مختلفة، في حين تعفى مقربوها من أي التزامات.
الأكثر إيلامًا هو التناقض الصارخ بين خطاب حماس الديني المُنادي بالزهد والتضحية، وبين ممارسات قياداتها. فبينما يُذكّرون الناس بـ “ثواب الصبر” و”قدسية القضية”، يُنفقون الملايين على تعليم أبنائهم في جامعات أوروبا، وعلاجهم في مستشفيات تركيا، بينما تُغلق المستشفيات في غزة لانعدام الوقود. هذا الانفصام يطرح أسئلة وجودية حول شرعية هذه القيادة: هل ما زالت تمثل الشعب الفلسطيني، أم أنها تحوّلت إلى طبقة بيروقراطية فاسدة، تستخدم المعاناة كورقة ضغط سياسي؟
إن هذه الأزمة تضع قيادة حماس على المحك، وتُثير تساؤلات جدية حول شرعيتها. فالمقاومة، في النهاية، ليست مجرد خيار سياسي، بل هي مبدأ أخلاقي وديني. والمبادئ الأخلاقية والدينية تُعلي من شأن العدل والتواضع، وتُحذّر من الإسراف والتبذير. فكيف يمكن لقيادة أن تدعو إلى الصمود والتضحية، بينما تُظهر سلوكًا يتنافى تمامًا مع هذه القيم؟
إن شرعية أي قيادة، وخاصة في أوقات الأزمات، تُستمد من قدرتها على تجسيد آلام وتطلعات شعبها. وعندما تفشل القيادة في ذلك، وتصبح جزءًا من المشكلة بدلًا من أن تكون جزءًا من الحل، فإنها تفقد شرعيتها تدريجيًا. وهذا هو ما يحدث في غزة اليوم، حيث تتزايد الشكوك حول دوافع قيادة حماس، وما إذا كانت تعمل حقًا لمصلحة الشعب، أم أنها أصبحت أسيرة لمصالحها الخاصة، غير عابئة بما يعانيه الشعب من جوع ومرض ويأس.
بعض الناشطين الفلسطينيين بدأوا يجرؤون على كسر حاجز الصمت. ففي الأسابيع الماضية، انتشرت هشتاغات مثل #حماس_تسرق_غزة و #أين_مساعدات_غزة، بينما تحدثت عائلات نازحة عن تفضيل المسؤولين في توزيع المساعدات. حتى أن بعض الأصوات داخل الحركة نفسها بدأت تنتقد هذا المسار، كما ظهر في تسريبات لقيادات وسطية تشكو من “استئثار مجموعة ضيقة بالقرارات والموارد.”
لا شك أن ما يحدث في غزة الآن، لا يهدد فقط مستقبل حماس كحركة مقاومة، بل يهدد أيضًا مستقبل غزة كقضية عادلة. فقبل أن تُرفع الرايات وتُطلق الشعارات، يجب أن يُؤمن لقمة العيش، وأن تُضمن الكرامة، وأن يُعاد الأمل إلى قلوب شعب أنهكته الحرب والخذلان.
الفساد في غزة ليس مشكلة مالية فحسب، بل هو جريمة أخلاقية في زمن الحرب. فالقادة الذين يتاجرون بمعاناة شعبهم يفقدون شرعيتهم، حتى لو رفعوا شعارات المقاومة. الفلسطينيون اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يفرضوا محاسبة حقيقية على من سرقوا حقوقهم، أو يتحولوا إلى مجرد وقود في صراعات لا تنتهي. السكوت لم يعد خيارًا. فالشعب الذي يواجه الموت كل يوم، يستحق على الأقل أن يعرف: أين تذهب أمواله؟ ومن يقف وراء جوعه؟
عبد الباري فياض
كاتب صحفي فلسطيني