العصيان المدني في إسرائيل: صرخة الأسرى في وجه نتنياهو

في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، تتصاعد أصوات غير مألوفة من داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وتحديدًا من عائلات الأسرى المحتجزين لدى حركة حماس في غزة. هذه الأصوات، التي كانت حتى وقت قريب تكتفي بالبكاء على شاشات التلفزة أو التوسل خلف أبواب الكنيست، باتت اليوم تهدد بما هو أخطر: العصيان المدني.
ليست هذه مجرد خطوة احتجاجية، بل هي تحول نوعي في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، بين القيادة السياسية والعائلات التي دفعت أبناءها إلى ساحات القتال ضد الفلسطينيين على مدار عشرات السنوات، وخاصة في السنتين الاخيرتين. حين تُعلن عائلات الأسرى أنها ستعصي أوامر الدولة، فإنها لا تطعن في شرعية الحكومة فحسب، بل تُعلن انهيار الثقة في المنظومة السياسية برمتها.
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي لطالما قدّم نفسه كحامي لأمن إسرائيل، يجد نفسه اليوم في مواجهة مع من يفترض في دولة نظامية ان يكونوا أقرب حلفائه: عائلات الجنود. هؤلاء يتهمونه علنًا بأنه يعرقل صفقة تبادل الأسرى، ويُفضل مصالحه السياسية على حياة أبنائهم. في نظرهم، خطط احتلال غزة ليست سوى مقامرة دموية، تُعرض حياة الأسرى للخطر وتُغرق الجيش في مستنقع لا مخرج منه، مثل مستنقع لبنان سابقاً، ومستنقع فيتنام للأمريكان.
إنها لحظة نادرة في السياسة الإسرائيلية، حين يتحول الخطاب الأمني إلى عبء سياسي، وحين يُصبح الاحتلال خيارًا مرفوضًا حتى من داخل المجتمع اليهودي نفسه، لكي لا يدفع ثمن ذلك مستقبلاً.
العصيان المدني، الذي طالما ارتبط بحركات التحرر في العالم الثالث، يُعاد تعريفه اليوم داخل إسرائيل. لم يعد مجرد رفض لدفع الضرائب أو تنظيم مظاهرات، بل بات أداة ضغط أخلاقي وسياسي في وجه حكومة تتهمها عائلات الأسرى بأنها فقدت بوصلتها الإنسانية.
هذا التهديد لا يمكن الاستهانة به، خاصة في ظل الانقسامات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، والتوتر المتصاعد بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية. رئيس الأركان نفسه حذّر من أن احتلال غزة سيكون “فخًا استراتيجيًا”، بينما تتصاعد الدعوات داخل الكابينت الحكومي اليميني لفرض السيطرة الكاملة على القطاع.
في قلب هذا الجدل، تقف غزة كرمز للمأساة المستمرة. خطط الاحتلال التي تناقشها الحكومة تشمل تهجير السكان جنوبًا، وتدمير البنية التحتية، وفرض واقع جديد بالقوة. لكن هذه الخطط، بدل أن تُعزز الأمن، تُهدد بتفجير الوضع الإقليمي، وتُعرض حياة الأسرى والجنود لمصير مجهول، وتزيد من التجويع والقتل والدمار.
عائلات الأسرى تدرك ذلك جيدًا، ولهذا تُعلن العصيان. إنها تقول بصوت واضح: لا احتلال قبل استعادة أبنائنا، لا مغامرة قبل إنقاذ الأرواح.
ما يحدث اليوم ليس مجرد خلاف حول سياسة أمنية، بل هو اختبار حقيقي لشرعية القيادة الإسرائيلية. العصيان المدني، إذا تحقق، قد يُشكل بداية لانهيار الثقة في الدولة، ويُعيد تشكيل المشهد السياسي من جذوره.
قد تكون غزة هي من تُعيد تعريف إسرائيل، لا من خلال الحرب، بل من خلال الأسرى، ومن خلال العائلات التي قررت أن تصرخ في وجه من اعتاد أن يذعن له شعبه.