حكاية قاص من الزمن الادبي الجميل

حكاية قاص من الزمن الادبي الجميل
ناجي ظاهر
كانت المرّات التي جمعتني به في مجلس أو أمسية أدبية، او محفل ادبي.. أو مُصادفة، قليلة جدا، غير انها كانت كافية لان يفهم كلٌّ منّا الآخر، وأن يقدّره تمام التقدير، هذا ما حصل خارجيا، أما داخليًا، فقد اختلف الامر، وهو ما شكل دافعًا لما ذكرته انفا، ممثلا في ان كلًا منا، على ما هو متوقع، قد قرأ للآخر بعضًا مما نشره في هذه الصحيفة او تلك المجلة، من قصص، ولمس ما حفلت به من اهتمامات فنية، وتقاربات حياتية وروحية.
ناجي فرح ابن مدينة شفاعمرو، التي تُصادف هذه الأيام ذكراه السنوية الخامسة، اسم ليس عابرا في حياتنا الأدبية والثقافية بصورة عامة، فقد عرفته هذه الحياة مثقفًا عصاميًا مجتهدًا، عمل طوال أيام حياته وسنواتها على تثقيف نفسه، وكان له ما أراد وأكثر، في مجالات ثقافية محتفلة، فعلى الصعيد الاجتماعي كانت له محاولات تنظيمية سياسية واجتماعية ملموسة، وكان لها مشاركاتها الحقيقية في احداث ليست قليلة مثل الاحتفالات المتتالية بيوم الأرض الخالد بعد حدوثه الانفجاريّ الأول في الثلاثين من اذار عام 1976، وقد تواصلت مشاركاته التنظيمية هذه بعد مغادرته البلاد للإقامة في المنفى، شبه الاختياري، في كندا، وكان في كلّ ما يقوم به ويساهم فيه من اعمال وفعاليات، يهدف الى خدمة القضية الوطنية الفلسطينية، موشاة بفكر سياسي يساري مُحبّ لكلّ ما هو انساني جميل، ووضاح المحيا.
لم يكتب ناجي فرح الكثير من القصص، لكنه كتب ما يستحق أن يُقرأ وحتى أن يُدرّس للطلاب في بلادنا، وأذكر في هذا السياق، انه كتب ونشر ما يساوي مجموعةً قصصية كاملة متكاملة، وتم نشره انتاجه الجميل الثرّ الغنيّ هذا، في صحافة الحزب الشيوعي، ابتداء من مجلة "الغد" انتهاء بصحيفة "الاتحاد" الحيفاوية مرورا بمجلة "الجديد" العريقة وطيبة الذكر.
اتصف ما نشره كاتبنا الجميل من قصص قليلة بوعي سياسي عميق، وقد كان من شأن هذا ان يوقعه في دائرة، وربما متاهة، الأدب المؤدلج الذي يرسف في قيود الفكر المُحدّد المُربّع، غير أن ما تمتّع به ناجي فرح من ثقافة أدبية عصامية ضاربة في عمقها، عفاه من هذه الصفة القتّالة في جوهرها لكلّ ما هو فنّي وجميل في القصة وفي الادب عامة.
النزعة الاجتماعية الإنسانية أيضًا، بدت واضحةً فيما خلّفه هذا الكاتب الذي يبدو مجهولًا على الدراسات البحثية الاكاديمية وحتى الصحفية، فقد امتاز ما قرأناه له من قصص، بأجواء شفاعمرية حيّة تتدفق بالحياة وما تحتويه من دفء الحاضر مستمدًا دفقه من الماضي، ومتطلّعًا إلى المستقبل، بكلّ ما اختزنه على ما بدا من حلم بغدٍ جميل وأمل اصيل.
إلى هذا حفلَ المنشورُ من هذه القصص بنماذج من واقعنا اليومي المعيش، ولم يخلُ من إشارات، تنبيهات وحتى نقدات مبطّنة، تجاه هذه الشخصبات، بمعنى أن هذه القصص حَفلت بنماذج إنسانية حيّة، لها كينونتُها ووجودها، الفني بصورة خاصة، فهي ليست شخصيات أو نماذج مسطحة وفق تعبير الباحث الناقد المصري عبد المحسن طه بدر، صاحب الكتاب اللافت عن الرواية المصرية*، وانما هي شخصيات مستديرة تكشف عن لحظات ضعفها قبل ان تكشف عن لحظات قوتها وهذا ما يقرّبها بالطبع، من الشخصيات الفنّية، النابضة بالحياة، كما سلف.
صحيح أن كاتبنا كتب القصة القصيرة، ومعروف أن هذا النوع الادبي، لا يحتمل الوصف المتعمق للشخصية التي يدور الحدث عنها وحولها، كما يحدث في الرواية الطويلة الممتدة، المتشعبة الاحداث، غير أنه تمكّن من بعث الحياة في شخصيات قصصه تلك، الامر الذي جذب القراء/ انا مثلًا، لها ومكّنها من أن تعيش في الذاكرة/ ذاكرتي.. رغم ما مضى على نشر تلك القصص من سنوات بعيدة وعقود مديدة.
تُرى ماذا بإمكاننا أن نقول، في الذكرى الخامسة لرحيل هذا الكاتب المُقلّ، لكن الجميل؟.. هل ندعو ورثته، إلى جمع ما نشره متناثرًا في الصحف المذكورة، علما أنه نشر يعضًا من قِصصه في صحيفة "فصل المقال" أيضًا، وإصدارها في كتاب يضم مجموعة قصصية، تُضيف وتُثري ديواننا النثري القصصي؟.. وهل ندعو بعد هذا، دارسًا أكاديميا مجتهدًا، لإجراء دراسة أو بحث نقدي، يعيد إلى هذا الكاتب ما كاد يفتقده من اعتبار؟..أرجو ان يتحقق هذا وذاك..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المقصود كتاب "تطوّر الرواية العربية المصري بين عامي 1870 و1937"، للدكتور عبد المحسن طه بدر. أما فيما يتعلّق بالشخصيات المسطحة والمستديرة او النامية، فقد أبدع في الحديث عنها أيضًا، الكاتب الناقد الإنجليزي ا. م. فورستر في كتابه الدراسي التنظيري المشهور "اركان القصة".
*الكاتب ناجي سليم فرح من مواليد مدينة شفاعمرو بتاريخ 17/ 5/ 1933نشط سياسيًا واجتماعيًا منذ مطالع السبعينيات الأولى. هاجر البلاد الى كندا عام 1976 وذلك جراء ظروف قاهرة. اصدر عام 2010 كتاب سيري مذكراتي، وهو الكتاب الوحيد له، محمّلًا إياه عنوانًا دالًا هو "ذكريات مهاجر- زمن يتكسر"، سرد فيه بأسلوب ادبي رائق وجميل، العديد من القصص والحكايات الشخصية التي عاشها وأحب أن يرويها. توفى في مثل هذا التاريخ، في 4/8/ 2020، قبل خمسة أعوام في تورنتو- كندا.