تأملات في رحلة الحج إلى بيت الله الحرام

لأنّ رحلة الحج ليست كأيّ رحلة أخرى، ولأنها رحلة العمر التي ينتظرها المسلم شوقًا، ويرجوها دعاءً طوال حياته، فهي ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي سفر إلى المعنى، وانتقال روحي ومعنوي نحو الصفاء والتجدد والتجرد، في مشهد إيماني مهيب، تجتمع فيه القلوب قبل الأجساد، ويقف فيه المسلمون من كل فج عميق على صعيد واحد، مُلبين نداء الله. وأيّ نعمة أعظم من هذه؟ إنها نعمة الاصطفاء والاختيار، ومكرمة الوقوف في أطهر البقاع وأشرف الأيام، حيث تتنزل الرحمات، وتُغسل الذنوب، وتُجاب الدعوات.
وأيّ فضل أعظم من أن يمنّ الله عليّ هذا العام بشرف أداء فريضة الحج؟ لأكون من ضيوف الرحمن الذين لبّوا النداء، وامتثلوا لأمر الله، وعلّقوا قلوبهم بالرجاء والمغفرة. فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا، يوازي عظيم فضله وجزيل نعمه. وأسأله سبحانه القبول، وأن يجعل حجنا حجًا مبرورًا، وسعينا مشكورًا، وذنبنا مغفورًا، وأن نكون عند حسن ظنه بنا يوم اختارنا لأداء ركن من أركان الإسلام، وشرّفنا بتعظيم شعائره في خير الأيام وأقدس الأماكن.
في يوم عرفة، ذلك اليوم الذي ترتعد له القلوب هيبة، وتخشع فيه الأرواح رهبة، يقف الإنسان أمام الله على صعيد عرفات، بين جموع الحجيج، في مشهد يأسر الفؤاد ويُذيب القلب. عيون دامعة، وأكف مرفوعة، وقلوب معلقة بالرجاء، هناك يتجلى معنى العبودية في أبهى صورها، وتسمو الأرواح فوق الدنيا وزخرفها.
وفي خضم هذا الفيض الروحي، يتسلل إلى القلب قلق وخوف معًا؛ قلق من التقصير، وخوف من أن نكون ممن شُغلوا عن عظمة الموقف بأحاديث عابرة وثرثرات عابثة، أو فرّطوا في رهبة اللحظة، وغفلوا عن قدسية الزمان والمكان. فإن رهبة هذا المشهد المهيب تستدعي أن نحسن الوقوف بين يدي الله، وأن نستشعر عظمته وجلاله، ونغتنم هذه الفرصة النادرة التي لا تُمنح إلا لمن كُتب له هذا القرب.
في المسجد النبوي الشريف، في المدينة المنورة، وعلى بُعد خطوات قليلة من قبر الحبيب المصطفى ﷺ، حللنا ضيوفًا في زيارة قصيرة، أقصر بكثير مما هو معتاد في برامج العمرة. وبرغم قصرها، حملت هذه الزيارة من الطمأنينة والسكينة ما يعجز الوصف عن احتوائه. أجواء يندر أن نجد لها مثيلًا في الدنيا، وأجزم أن شبيهاتها لا تكون إلا في الجنة.
نعم، فالصلاة، والاعتكاف، والعبادة في المسجد النبوي جنة؛ أولًا لمن قصد التعبد لله الواحد الأحد، وثانيًا لمن أثقلت كاهله هموم الحياة، وضغوطها، وأعباؤها التي لا تنتهي. هناك، تتجلى الروحانية في أصفى صورها، وتُغسل النفس من تعب الأيام، وتجد الروح مأواها، في مكان لا يُشبه سواه.
وكيف لا يكون الدعاء لغزة، التي يتعرض أهلها لحرب إبادة جماعية، وتجويع، وحصار، وقصف لا يفرق بين طفل وامرأة وشيخ، حاضرًا في رحلة الحج، بكل أيامها وساعاتها ولحظاتها؟ فالدعاء لهم ليس خيارًا، بل هو واجب، ونداء وفاء، وصرخة روح وضمير في حضرة الله: أن ارفع عنهم البلاء، واكشف عنهم الغمّة، وارزق أهلها الأمن، والرزق، والنصر القريب.
في كل سجدة، كانت غزة حاضرة. في كل دمعة، كان جرحها يقطر وجعًا. في كل تكبيرة، كانت الأرواح تناجي ربها أن يُبدل خوفهم أمنًا، وجوعهم شبعًا، ومحنهم فرجًا قريبًا. وما أعظم أن يكون القلب في مكة، والقبلة واحدة، والدعاء واحد، والرجاء مشترك بأن يلتقي الحجيج على صعيد عرفات، والدموع تسيل لأجل أولئك الذين تُركوا وحدهم يدافعون عن شرف الأمة وكرامتها، ويقدمون التضحيات العظام نيابة عن أمة ما زال يعتريها الضعف، ويثقلها الخذلان، ويؤلمها التقصير تجاه غزة الجريحة.
وكم كان الأمل أن يعلو اسم غزة في دعاء أئمة الحرمين الشريفين، وأن تُذكر بالاسم لا تعميمًا، كما ذُكرت فلسطين عامة. فغزة لا تغيب عن القلوب، ولا يجوز أن تغيب عن الألسنة في لحظات الدعاء الصادق. إنها الجرح النازف، والرمز الصامد، والاستغاثة التي لا ينبغي أن تُهمل.
في مكة، عند بيت الله العتيق، وأثناء أداء مناسك الحج، حيث يحتشد المسلمون من كل حدب وصوب، ويأتون من كل فج عميق، تتجلى وحدة الأمة الإسلامية في أبهى صورها، متجاوزة كل الفوارق من لغة وعرق وجنسية، وكل الخطوط الجغرافية المصطنعة. هناك، تتوحد القلوب قبل الألسنة، ويرتفع الدعاء واحدًا: أن يوحّد الله صفوف المسلمين، ويجمع كلمتهم بعد طول شتات وتشرذم.
وهناك أيضًا، تسمع من كل من يجاورك حديثًا عن حلم الوحدة، وحنينًا إلى أمة قوية متماسكة، تفكر بعقلية الأمة الكبيرة، لا بعقلية القُطر، وتنظر بعين تتسع لهموم الإسلام وأهله، لا بعين لا تتجاوز حدود الوطن الصغير، أو لا ترى أبعد من أطراف المسجد الحرام. إنه مطلب صادق، يخرج من قلوب مؤمنة، تحمل همّ الأمة، وتبتهل أن تعود لها كرامتها وعزتها ووحدتها المنشودة.
لكن السؤال الذي يطرق القلب في مثل هذه اللحظات المهيبة: كيف نُحقق هذه الوحدة التي نحلم بها؟ كيف لا نظل أمة كغثاء السيل، كثيرة العدد، ضعيفة التأثير؟ كيف نُترجم هذه المشاعر الجياشة إلى مشروع نهضوي جامع؟ كيف يتحول هذا التلاقي الروحي إلى تلاقي فكري وحضاري وسياسي يُعيد للأمة حضورها ومكانتها بين الأمم؟
ومتى نبلغ الوعي أننا أمة واحدة حقًا، لا مجرد شعور عابر في موسم من مواسم الطاعة، بل انتماء راسخ دائم، يتجدد فينا كل يوم، ويوجهنا في كل ميدان؟