يموت الفقير المحترم بصمت..لا احد يشعر بغيابه

يموت الفقير المحترم بصمت.
لا أحد يشعر بغيابه… وكأن وفاته امتداد لحياته: خافتة، هامشية، لا تُقلق أحدًا.
يموت بعد عمرٍ من التعب، من الالتزام، من الصدق، من التزام طابور البريد والاحترام في الباصات والسكوت في الاجتماعات.
يموت وهو يملك سريره المتواضع، ودفتر الديون في البقالة، وخزانة أحلام مؤجلة لم تفتح أبدًا.
وفي يوم جنازته… تمرّ الدقائق ثقيلة.
الحاضرين ثلاثة أو أربعة، أقاربه القلائل، وشيخ الحارة الذي جاء مجاملة، وربما رجل مسن لا نعرف هل جاء لوداعه، أم ظنّ أن الجنازة لشخص آخر.
لا مكبرات، لا خطب حماسية، لا لافتات تنعيه بـ”المناضل الكبير” أو “رجل البر والإحسان”.
لا أحد يصفق لذكراه، ولا تظهر صورته على صفحات الفيسبوك مزيّنة بآيات الرحمة.
تموت الكرامة معه… دون أن تصدر صوتًا.
أما إذا مات الغني، ولو كان فاسدًا أو حراميًا أو نصّابًا محترفًا… فحدّث ولا حرج!
تُغلق الشوارع، تُوزّع المناشف، وتُنشَر نعوته على عشرات الصفحات من صحفٍ لم تكتب عنه حيًا.
الجميع يأتي، حتى من لم يعرفه.
الجميع يبكي، حتى من شتمه.
يعلو صوت الرثاء، وتنهال كلمات الوفاء، كأنهم يدفنون قديسًا لا رجلاً بنى مجده على رقاب الناس.
يموت الغني، ويُرفع على الأكتاف كما لم يُرفَع أي مبدأ في حياته.
حتى الذين كانوا ضحاياه، يأتون… لأن المجتمع علمهم أن يحترموا السلطة حتى وهي ميتة.
وأن يسيروا خلف النعش الفاخر، لا حبًا بالميت، بل احترامًا للمال.
أي عدل هذا؟
أي ميزان هذا الذي يُكرم الكاذب ويدفن الشريف بصمت؟
أي قيم هذه التي تجعل جنازة المحترم فارغة، وجنازة اللص زحامًا وبكاءً ونفاقًا؟
أنا لا أبكي فقط على موتى الفقراء.
أنا أبكي على مجتمعٍ صار فيه المال شهادة حسن سيرة، والغنى جواز عبور إلى قلوب الناس، مهما كان الثمن.
وأسأل:
هل كنا نحترمهم فعلًا؟
أم أننا فقط نحبّ أن نكون بقرب السلطة… حتى في المقابر؟