بوليفيا الدولة الصديقة البعيدة القريبة

منجد صالح
نُشر: 01/01 08:35

في كلّ حربٍ عدوانيّة اسرائيليّة على شعبنا الفلسطيني تُفاجئنا بوليفيا، ايجابا وتميّزا وعطاء، بموقفٍ مبدئي قوي داعم لشعبنا وقضيّتنا وضدّ اسرائيل واحتلالها وعدوانيّتها واعتداءاتها،

تقوم بوليفيا، دون تردد ولا ابطاء وبتصميمٍ متورّد، بخطوة متقدّمة حتى على موقف اقرب اقربائنا العرب والمسلمين، وتقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة المعتدية، انتصارا للشعب المظلوم الذي يُكافح من اجل نيل حقوقه الوطنية ودولته المستقلة،

موقفٌ نبيل عميق متقدّم رائد نابع من اعماق شعبٍ صديق "شقيق" ذاق مرارة الظلم على ايدي المستعمرين القدم والجدد، وامتلأ تجربة وكبرياء وانسانيّة وحبّا وتأييدا للقضايا العادلة التي تشبه وتشابه مع قضيّته وقضايا اشقائه من شعوب امريكا اللاتينية، توأمنا البعيد القريب في العالم الجديد،

هذه هي المرّة الثانية التي تقطع بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية مع اسرائيل المُعتدية، لارتكابها جرائم ضد الانسانيّة، حيث كانت قد قطعتها ايضا للمرّة الاولى، على نفس الخلفيّة، سابقا في عهد الرئيس التقدّمي ايفو موراليس عام 2009 بعد عدوانها على غزّة حينها،

تداعي بوليفيا، الدولة الواقعة في الطرف الجنوبي من الكرة الارضية، إلى اتخاذ مثل هذا الموقف ينمّ عن فهم عميق للعلاقات الدولية ولما يجري في مناطق بعيدة عنها،وتعكس اصالة شعب بوليفيا وحضارته وثقافته المُتجذّرة، إلى جانب مستوى عالٍ من الانسانية والتضامن والمسؤولية الاخلاقية والسياسيّة’،

بوليفيا ليست كغيرها من الدول، لا اعني هنا فقط موقفها المُشرّف من فلسطين وشعبها في محنته، وحيال الاعتداءات والانتهاكات الاسرائيلية لكلّ المُحرّمات الدولية، وانما اعني بوليفيا كدولة وموقع جغرافي ومميّزات مناخيّة وديمغرافيّة وربّما ثقافية وحضارية،

تقع بوليفيا في اعلى قمم سلسلة جبال الانديز، في امريكا الجنوبية، تُجاور البيرو والتشيلي والبرازيل، وليس لها مخرج على البحر مثلها في ذلك مثل جارتها وزميلتها البراغواي،  

تُعتبر عاصمتها لاباز (السلام بالاسبانية) اعلى عاصمة في العالم حيث ترتفع عن سطح البحر باكثر من 4 آلاف متر، مما يعني نقصا في الاكسجين بنسبة اكثر من 35%، الامر الذي يُسبب مشاكل تنفسّية وصحّية للقادمين الجدد إلى بوليفيا، إلى الدرجة انّ فريق كرة القدم البرازيلي العالمي لا يستطيع من كسب مباراة امام منتخب بوليفيا المتواضع عندما يلعبان في ستاد كرة القدم في لاباز،

تأتي بعد لاباز عدة عواصم في المنطقة وفي العالم تتدرّج هبوطا في الارتفاع: " بوغوتا عاصمة كولمبيا وكيتو عاصمة الاكوادور ومكسيكو سيتي عاصمة المكسيك واديس ابابا عاصمة اثيوبيا وصنعاء عاصمة اليمن،

أما جارتها ولصيقتها البيرو بعاصمتها ليما، فلديها قصّة اخرى جديرة بالذكر وان تُروى،

ففي ليما عاصمة البيرو الساحلية التي تقع على شواطئ المحيط الهادئ، "لا تمطر الدنيا فيها ابدا، لا مطر اطلاقا في ليما، لأنّ جبال الانديز العالية التي تُحيط بالعاصمة تمنع التيارات الهوائيّة وبالتالي السحب الماطرة من الوصول إلى اعالي فضاء العاصمة، ولهذا لا تمطر الدنيا ابدا في ليما، وانما تكتفي النباتات والاشجار بقطرات الندى الصباحية، وطبعا المياه الجوفية وربما الجارية، فالجبال المحيطة الشاهقة تنساب منها الجداول والشلالات،

وبالرغم من عدم المطر في ليما ذاتها إلا انها مدينة جميلة مليئة بالزهور والورود، وشواطئها غنيّة بالاسماك اللذيذة، وطبق السمك القومي البيروفي أو الطبق الوطني الشعبي هو طبق "السيفيتش"، المحضّر من فيليه السمك الطازج معالجا "بدقّة" الفلفل الحار والحامض، حتى يستوي، ينضج و يؤكل مضافا على الطبق شرحات كبيرة دائرية من البصل، وتأكل هذا الطبق هنيئا مريئا والدموع تهطل من عينيك وسائل يخرج باستمرار من انفك، يتبع هذا الطبق فاكهة البيرو الوطنية التي تسمّى "غرينادة"، اي القنبلة،

ومعروف عن البيرو بانّها من افضل دول العالم في تقديم طبق "الفرّوج المشوي"،

وجدير بالذكر أن الطقس مقلوب في البيرو بالنسبة لنا في الشرق الاوسط، شأنها شأن دول امريكا الجنوبية، الطرف الجنوبي من الكرة الارضية، فعندما نكون هنا في فلسطين في غز الصيف يسود حينها في البيرو شتاء باردا والعكس صحيح،

وتوجد في البيرو جالية فلسطينيّة عريقة مزدهرة، والنادي الفلسطيني في البيرو هو ثاني اكبر نادي فلسطيني في القارة بعد النادي الفلسطيني في التشيلي، والجالية تتكوّن من المهاجرين وابنائهم من بيت لحم وبيت جالا والمزرعة الشرقية وقرية بيتا القريبة من نابلس،  

أمّا اعلى مدينة في العالم، اكثر من 6 آلاف متر فهي ايضا مدينة بوليفية تسمّى بوتوسي، واعلى بُحيرة في العالم هي بحيرة تيتيكاكا الواقعة في اعلى اعالي العاصمة البوليفية لاباز،

لكن اعلى شلال في العالم فهو شلال "سالتو التو" (القفزة العالية) فيقع في اعلى جبال فنزويلا، ويمكن الوصول اليه بطائرة هليوكبتر، ويقال ان هناك مناطق في اعلى الشلال لم تطأها قدم انسان قط!!!،

الطيارون البوليفيون هم من امهر الطياريين في العالم وخاصة عندما يتعلّق الامر بالطيران من وإلى مطار العاصمة لاباز، الذي يمتاز بطول مدرجه، حتى تتمكّن الطائرة من الجري على المدرج مدة اطول من المعتاد حتى تتمكّن من الصعود في ظلّ كثافة الهواء الاقلّ من مناطق اخرى ليست بمثل هذا الارتفاع،

طائرات الشركات الدولية الكبرى المسافرة إلى لاباز مثل اللفتهانزا والكي أل أم والفرنسية وايبيريا الاسبانية لا تصل عملّيا إلى مطار لاباز وانما تحطّ بطيّاريها الاصليين في مطار ليما عاصمة البيرو المجاورة، ثمّ يستلم الطائرات طيّارين بوليفيين هم اقدر على المناورة والهبوط في مطار لاباز الواقع في جرف قمة جبل شاهق على ارتفاع اكثر من 4 آلاف متر عن سطح البحر،والعودة بها لاحقا إلى ليما وهكذا،....،

صديقي زياد الصبّاغ، اصلا من القدس، احد رجال الاعمال الفلسطينيين المغتربين في بوليفيا كان لديه ولدان في اواخر الثمانينيّات من القرن الماضي عندما كنت أنا في بوليفيا كممثّل ل م ت ف فيها،

الولد الاكبر من اولاد زياد كان قد ولد قبل وصول العائلة إلى لاباز، أي ولد خارج نطاق الجبل العالي، كان يجد صعوبات في ممارسة الرياضة بصورة طبيعية، اما شقيقه الاصغر، ابن زياد الثاني الذي ولد في لاباز فكان يركب الدراجة من اسفل مدينة لاباز حتى اعلاها حيث بحيرة تيتيكاكا بكل اريحية ونشاط،

وعند وصول الطائرة إلى مطار لاباز، لا يستقبلون الركاب ببافات من الورود وانما يتواجد في اسفل سلّم الطائرة مباشرة ممرض وممرضة معهما انبوبة اكسجين وجهاز تنفس مشبوك فيها وذلك لامكانية سرعة التدخل في حالة طارئة، في حالة ان احد المسافرين الواصلين بدت عليه علامات التأثّر من نقص الاكسجين في المطار، على ارتفاع 4 آلاف متر،

واوّل ما تشعر به حين خروجك من الطائرة هو انك تشمّ هواء محروقا، بكثير من ثاني اكسيد الكربون قليل من الاكسجين،وتشعر ايضا وكأن ثقلا ما يغمّك ويُظلك،

أوّل ما يُقدّمونه لك في صالة المطار توّا بعد وصولك كأسا من "شاي الكوكا"، اي كأسا من مغلي اوراق نبتة الكوكا، تُنعشك وتزوّدك بالطاقة،

ونبتة الكوكا هذه بذاتها بصفاتها لي معها قصة تُحكى ورواية تُروى: "عندما كنت في تونس اعمل دبلوماسيا وضمن طاقم "ابو عمار"، زارنا وفدٌ من بوليفيا ضمّ رئيس حركة بوليفيا الحرّة، انطونيو ارانيبار كيروغا، وكان له اجتماع مع "ابو عمار"،

كان الاجتماع في بيت مقرّ منظمة التحرير على شاطئ البحر في ضاحية قمرت المُتاخمة لضاحية قرطاج،

كان الاجتماع في صالة البيت الكبير الواسع، الذي كان مقرّا للحاكم الفرنسي في تونس ايام الانتداب، واهدته الحكومة التونسية لمنظمة التحرير لتتخذه مقرا بعد الخروج من بيروت والاقامة في تونس،

كان أبو عمار يجلس في صدر الصالون وإلى جانبه يجلس الضيف البوليفي من ناحية اليسار، وانا إلى جانبه من ناحية اليمين، هكذا تسهل عملية ترجمة اللقاء عربي اسباني عربي،

بدأ ابو عمار بالحديث وانا اترجم وراءه مرحّبا بالضيف شارحا علاقاته مع العديد من زعماء امريكا اللاتينية،

جاء دور انطونيو وبدأ يشرح ل"ابو عمار" عن بوليفيا والاوضاع فيها وعن الحركة التي يتزعّمها حركة بوليفيا الحرّة وهي شعبية يسارية وثالث حزب سياسي في البلاد،

استرسل انطونيو في الشرح وابو عمار يُتابعه باهتمام، إلى اللحظة التي ذكر فيها أن معظم مؤيّدي حركته هم من الفلاحين ذوي الاصول الهندية الحمراء، الذين يكسبون عيشهم من وراء زراعة نبتة الكوكا،

انتبه ابو عمار ل "نبتة الكوكا"، وانتفض في مكانه وتغيّرت ملامح وجهه فلم يعد بشوشا كما كان،

التقطتُ اللحظة ولمعت في ذهني فكرة قُلتها ل "ابو عمار" دون تردّد، قلت له:

" يا اخ ابو عمار نبتة الكوكا يصنعون منها مغلي مفيد يساعدهم على تحمّل تبعات ارتفاع العاصمة، كالبابونج مثلا، طبيعي من اوراقها، تماما مثل العنب، عندما تأكله فاكهة لذيذة ومفيدة وصحّية، اما عندما نُخمّر العنب فيتحوّل إلى نبيذ مُسكر، وهكذا نبتة الكوكا مفيد شرب مغلي اوراقها، أما عندما تُصنّع في المختبرات فتصبح كوكائين، وهذا شيء آخر.

انفرجت اسارير "ابو عمّار" وعاد إلى طبيعته مرتاحا بشوشا، شدّ على يدي بيده وقال لي: "ريّحتني الله يريّحك."

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة