الوصف التجريدي للإمم وابعاده الخطرة| بقلم: مقدام مواسي

مقدام مواسي
نُشر: 01/01 23:15,  حُتلن: 00:05

على وقع ما نمر به من ماسي وازمات اضافة لما راكمه تاريخنا منذ ما يقرب من قرن, بتنا نسمع اصواتا وخاصة ممن يحسبون على النخب المتعلمة، ترجع التخلف العربي الراهن في مستوياته كافة الى كينونة خاصة تختص بها الامة العربية دون غيرها، منطلقين بذلك من ان جوهرا ثابتا ومتاصلا يفرض نفسه على الواقع العربي المتخلف بالرغم من كل المتغيرات والظروف. متجاهلين بذلك السياق الزماني والمكاني الذي شكل الحالة الراهنة وثبتها واقعيا.

العبارات والتوصيفات التي نسمعها مثل:الرومانسية الفرنسية، الديناميكية الامريكية,العسكرة الروسية,الجبن الايطالي في الحروب,النزغة الصناعية الالمانية,الدهاء الايراني، التخلف العربي,,,,الخ من الاوصاف تجد لها اذانا صاغية بين العوام وبين من لا يجدر بهم تقبلها واقصد هنا النخب المتعلمة والمثقفة.

هذه التوصيفات انفة الذكر والتي يستعملها كثير منا لتمييز شعب عن اخر باعطاءه تركيبة (نفسية-عقلية) ثابتة، يطلق عليها المفكر القومي نديم البيطار "النظرة الميتافيزيقية للامم"، بمعنى انها نظرة وصفية تنتقي الظواهر في سياق زماني محدد وتسقطها على التاريخ كله باعتبارها جوهرا ثابتا وموروث تاريخي عابر للازمان.

تلك الدراسة التي تحمل عنوان نقد المفهوم الميتافيزيقي للهوية القومية للمفكر القومي العربي نديم البيطار, تتناول النظرة الميتافيزيقية حول الامم والشعوب، والنظرة الميتافيرزيقية للامم تعني اعطاء الحالة (السيكولوجية-العقلية) الجمعية الراهنة جوهرا خالدا متجذرا في الماضي وممتدا في المستقبل, دون اعتبار للظروف الداخلية التي ساهمت في تشكلها بما تتضمنه من حالة ايديولوجية مستحكمة واوضاع (سياسية، اقتصادية، اجتماعية )، وايضا دون اعتبار للظروف الخارجية والتي تفرض نفسها بقوة في الشان الداخلي, وواقع العولمة اليوم يضاعف مدى تاثيرها عن سابق الازمان, فيتناولها البيطار ويدحض اسسها باعتماده المنهج التاريخي المقارن,فيقوم باعطاء امثلة لظراهر اجتماعية متباينة في ذات المجتمع عبر تاريخه الممتد تتناقض مع التوصيفات المطلقة والثابتة.

ومن الامثلة التي يطرحها البيطار في دراسته:

(اقتباسات من الدراسة)
1.في بداية القرن التاسع عشر كان عدد كبير من المفكرين يرون أنه يستحيل على ألمانيا أن تتحول إلى دولة صناعية، لأن " الروح " الألماني يعبر عن ذاته في الفلسفة والأدب والفن، وليس في العلم والتقنية والصناعة . ولكن بعد بضعة عقود من السنين أصبحت ألمانيا في طليعة الأمم الأوروبية الصناعية . أين كان ذلك "الروح " ؟ أثناء الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية كان الألمان يعرفون بـ "روح " عسكري نظامي . إننا في الواقع نجد ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر مفكرين من أمثال هينة ، ماتيو أرنولد، وجورج ميريدس يقولون إن " الروح " الألماني روح عسكري ويحذرون من خطر ذلك. إن أنجلز نفسه كتب عام ١٨٨٨ ما يعبر عن هذا المفهوم أو يوحي به. هذا " الروح " كان في الواقع عكس " الروح " الذي كان يُعطى لألمانيا أو بالأحرى " يُكشف " عنه في ألمانيا أثناء العهد النابليوني. إننا لا نزال حتى الآن نرى بعض المفكرين يميزون ألمانيا بهذا الروح العسكري . ان حب الحرب أصبح متأصلاً في المزاج الألماني، وكان سبب هلاك الألمان ". إن فشل الديمقراطية في ألمانيا عام ١٩٣٣ وجد من يفسره آنتيجة ترتبت على الروح الألماني الذي لا ينفتح للديمقراطية ويميل إلى التعبير عن ذاته في سلطة أوتوقراطية . هذا المفهوم يتنافى بالمطلق مع ما تعيشه المانيا اليوم من حالة ديموقراطية فريدة وناجحة.

2.بين جميع هذه الأمثلة قد يكون ، في الواقع ، مثل إنكلترا أكثرها فائدة و متعة وتنويراً. فالإنكليز المعاصرون يرون أنفسهم كشعب ذي " روح " معتدل ، متزن عقلاني ، يدرك طبيعة السلطة ويحترمها، وأن هذا الاعتدال والحكمة أنعما عليه بأحسن نظام حكومي في العالم ، وأن الشعب الفرنسي مثلاً يتميز عند المقارنة بطبيعة غير نظامية، متمردة ، تنشغل بشكل عام بإسقاط الحكومات . النتيجة كانت سيادة نظام حكومي سيئ فيها. إن اقتصرت هذه المقارنة على تاريخ بريطانيا وفرنسا منذ نهاية القرن الثامن عشر أو الثورة الفرنسية ، فإن هذا التصور قد يجد له أساساً معقولا، وذلك لأن فرنسا عانت عدة ثورات منذ ذلك التاريخ ، وتتابعت فيها حكومات عديدة مختلفة ، بينما كانت إنكلترا تعاني تحولات تدريجية سليمة في نظامها السياسي الاجتماعي تجنبت فيها الثورات والهزات الثورية . ولكن إن نحن رجعنا قليلاً إلى تاريخ البلدين السابق لوجدنا صورة أخرى تلغي هذا الأساس المعقول لمقارنة كهذه . ففي القرون الثمانية المتقدمة على عام ١٧٨٩، عانت إنكلترا الحروب الأهلية، التغيرات في نظام الحكم ، والعنف الداخلي ، أكثر مما نجد في فرنسا ؛ فالأوروبيون في القرن السادس عشر كانوا يرون أن الشعب الإنكليزي يتميز بروح متطرف لا يمكن حكمه. هذا المفهوم وجد دليلاً إضافياً له في القرن السابع عشر عندما فجرت إنكلترا ثورتين امتدتا إلى أربعين عاماً وروعت أوروبا بإعدام ملكها ، حتى في القرن التاسع عشر والقرن العشرين- المرحلة السياسية "العقلانية"- كادت إنكلترا تعاني ثورة أخرى عام ١٨٤٨ ،ولولا انفجار الحرب العالمية الأولى لكان من المحتمل تعرضها لحرب اهلية.

من خلال هذه الامثلة نصل الى نتيجة مفادها بانه من الخطا اعطاء الامم الشعوب تركيبة (نفسية-عقلية) ثابتة ومستقرة لان التاريخ يثبت بان التركيبة النفسية والعقلية مكتسبة كنتيجة لمعاناة انسانية تاريخية وتخضع للتغيرات الدائمة عبر عناصر متعددة واهمها المنظومة الايديولوجية (المكتسبة اصلا) والتي تضبط الى حد كبير سلوك الافراد, وليست جينا متوارثا تحتفظ به الشعوب طوال تاريخها.

من هنا تاتي اهمية تفنيد هذة النظرة الخاطئة, لانها ان استقرت وتجذرت في وعيينا الجمعي فانها حتما ستدفعنا كافراد ولو بشكل لا ارادي للتاقلم مع الواقع وتثبيته بدلا من مواجهته. وبالتالي ستؤدي لتجميد الواقع المتخلف واستقراره والحيلولة دون تغييرة لما تضفيه تلك النظرة من تثبيط للعزائم ونزع الارادة في التغيير وقتل الدافع النفسي والاخلاقي لتجاوز الحالة الراهنة, لانها تشرعن التكاسل والتخامل عن تادية الدور الحقيقي المناط بنا فعله, طالما انها تنسب الحال المتخلف لكينونة (نفسية-عقلية) متاصلة تتماهى مع الواقع المتخلف, وبذلك نصبح عاجزين عن تجاوز واقعنا لحال افضل وهذه النظرة كما ذكر سابقا ليست اكثر من هرطقات علمية ضحدها علم الاجتماع الحديث.

لا استغرب مطلقا ممن يروج لتلك المفاهيم بين اعداءنا فغايتهم السياسية واضحة وتتلخص في تثبيت موقعهم في العلاقة الغير المتكافئة ما بين التابع والمتبوع. هذه المفاهيم وظفتها القوى الاستعمارية مع بزوغ الحقبة الصناعية الراسمالية لغرض الحفاظ على امتيازاتها وابقاء هيمنتها في مستعمراتها، وكانت الايديولوجيات العنصرية الاداة الفعالة للدول الاستعمارية، تركز في طرحها النظري على التوصيف الميتافيزيقي للشعوب المستهدفة عبر ربط تخلفها المرحلي بكينونة ثابتة لتشرعن استتباعها لها , مستغلة بذلك الفجوة الحضارية بين الطرفين . اذ ان النازية كرست مفهوم تفوق العرق الاري (بخصائصه النفسية والعقلية) ابان الحملة التوسعية في ارجاء اوروبا، والبيض الامريكيون دشنوا مفهوم تفوق العرض الابيض لغرض ابقاء الهيمنة على الاقتصاد والمؤسسات السياسية في الولايات المتحدة الامريكية.

انما يصعب علينا فهم هؤلاء الذين يقبلونها من بني جلدتنا ويعتبرونها احكام مطلقة تحاكي الواقع, ويبثونها كالسموم في وعي الافراد, وهنا يتبادر السؤال: ماذا نجني من رواج تلك الهرطقات غير تكريس الهزيمة والاستسلام للامر الواقع؟

خلاصة ما وددت الاشارة اليه، ان هنالك فارق كبير بين النظر الى التخلف بوصفه نتاج واقع موضوعي شكلته الظروف، وبين النظر اليه بوصفه انعكاس لجوهر متاصل ومتجذر ممتد من الماضي الى المستقبل فارضا نفسه على ارادة الشعوب، في الاولى تندفع الارادة الانسانية في صراعها مع الواقع حتى تتخطاه وتخلق واقعا جديدا وهي سمة ينفرد بها الانسان دون غيره، بينما في الثانية يفقد الانسان دافعيته صوب التغيير ويخسر ديناميكيته وبدل الصراع مع الواقع يتبلور نمط جديد وهو التاقلم السلبي، وبذلك يتجرد الانسان من اهم ما يميزه عن باقي المخلوقات وهو قدرته الدائمة على التطور.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com   

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة