لا يتناقض السؤال المطروح مع حقيقة ان المعني المباشر بالازمة اللبنانية هم المواطنون اللبنانيون اولا، وهذه بديهية لا يناقش فيها احد، غير ان هناك فئات اجتماعية تقيم في لبنان بشكل قانوني وتنظر بقلق شديد الى ما يحمله لها المستقبل القريب من سياسات واجراءات حكومية ستنعكس سلبا عليها.. وفي مقدمة هذه الفئات اللاجئون الفلسطينيون، الذين تأثروا كثيرا بتداعيات الازمات المتتالية منذ ما قبل العام 2019، وينظرون بعين الامل الى حكومة وبرلمان يعيدان الاعتبار لوضعيتهم الانسانية، بعد ان اصبحوا من اكثر الفئات الاجتماعية تهميشا..
قد يطرح بعضهم سؤالا، وربما يكون محقا في جزء منه: كيف للحكومة اللبنانية ان تضع في اولوياتها الاوضاع الانسانية والمعيشية للاجئين الفلسطينيين، وهي غير قادرة على معالجة اوضاع مواطنيها، في ظل ازمة قد تحتاح لسنوات من اجل تجاوزها؟ وهو سؤال يترد احيانا على السنة بعض الفلسطينيين ايضا، الذين طحنتهم تفاصيل الازمة وسياسة العقوبات الجماعية المفروضة عليهم دوليا والتي تترجم بحصار وكالة الغوث ماليا لجعلها اسما بلا مضمون. لذلك وجب علينا توضيح بعض الامور وتحديد المقصد من &مسؤولية الدولة اللبنانية" وحدود مسؤولياتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين في لبنان..
لا يختلف إثنان على ان وضعية اللاجئ الفلسطيني في لبنان تختلف عن وضعية المواطن اللبناني، الذي انتفض في 17 تشرين الاول 2019 ضد اوضاع وسياسات اوصلته الى الازمة التي يشهدها لبنان اليوم، ومن حقه، بل من واجبه، السعي والعمل ليكون مواطنا في وطن يوفر له الحد الادنى من حقوقه الصحية والتعليمية والمعيشية..، وايضا حقه في الحصول على عمل ومسكن لائق وغير ذلك من حقوق على الدولة بجميع مؤسساتها العمل على تحقيقها..
اما مطالب اللاجئ الفلسطيني فهي حتما مختلفة عن مطالب المواطن اللبناني، وان كان من حق الاثنين ان يتمتعا بالحق في الحياة والامن والسلامة وحقهما في الوصول الى احتياجاتهما الحياتية والمعيشية. ولعل النقطة الاساس التي يسعى بعض الحاقدين الى الترويج لها، خاصة ونحن على ابواب انتخابات برلمانية، هي في التركيز على تفاصيل الازمة بهدف ابراز عجز الدولة عن تقديم الخدمات لمواطنيها، فكيف الامر باللاجئين والمقيمين.. وهذا كلام حق يراد به باطل، ويعلم اصحابه انه لا يمت للحقيقة والواقع بصلة.. إذ لم يثبت ان اللاجئي الفلسطيني او اي من ممثليه ومرجعياته الوطنية طالبوا يوما بالمساواة مع المواطن اللبناني، حتى في القضايا الحياتية والخدماتية.. فما الذي يريده الفلسطينيون من الحكومة اللبنانية الجديدة؟
1) كان واضحا خلو البيان الوزاري للحكومة، من اي ذكر لعناوين تحدثت عنها البيانات الوزارية السابقة، ومنها دعم حق العودة والالتزام بتحسين الاوضاع المعيشية للاجئين ودعم وكالة الغوث والسعي لتطوير خدماتها، والشعب الفلسطيني المدرك لتفاصيل وابعاد الازمة في لبنان يتفهم حقيقة عدم وجود الملف الفلسطيني كأولوية على طاولة السلطة. وتفسير حسن النية يقول ان سقوط هذه العناوين لا يعني انها ليست على اجندة الحكومة التي تضم في عدادها وزراء لهم مواقف وطنية متقدمة لجهة دعم حقوق ونضال الشعب الفلسطيني وتأييد مسعى تحسين اوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، وقد عبر بعض الوزراء مشكورين عن هذه المواقف خلال الايام القليلة الماضية، اضافة الى مواقف رئيس الجمهورية ورئيسي البرلمان والحكومة المتقدمة من مسألة دعم النضال والحقوق الفلسطينية، ولهذا السبب كنا دائما نقول ولا زلنا، بأن لنا مصلحة فعلية في تعافي لبنان وعودته الى الساحة الاقليمية والدولية ليعود كنا كان على الدوام داعم فعلي وهام للقضية الفلسطينية وعدالتها..
2) رغم حدة الازمة اللبنانية وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، فما زالت مسألة اقرار الحقوق الانسانية موضع اجماع فلسطيني، ليس لأن الفلسطيني يريد ان يتقاسم مع اللبناني "امتيازات المواطنية"، كما يحاول البعض ان يصور، بل انطلاقا من واجبات الدولة اللبنانية تجاه المقيمين على ارضها، طالما انهم يقيمون بصورة قانونية ومعترف بها من السطات الرسمية. وما يريده اللاجئ الفلسطيني ليس تأمين فرص العمل للعمال، ولا توفير المنازل للشباب، ولا فتح ابواب المؤسسات الرسمية لتوظيف الخريجين، ولا ايضا شمولنا بعديد الامتيازات والحقوق التي يتمتع بها اي مواطن.. بل ان ما يريده هو فقط حماية قانونية للانسان الفلسطيني في حياته اليومية: في عمله ومسكنه وفي تمتعه بحماية القانون في كل جوانب الحياة العادية..
هنا لا نريد الدخول في سجالات عقيمة مع بعض الافكار العنصرية التي ترى بكل حق انساني للفلسطيني مقدمة للتوطين.. ونحن نعلم ان وكالة الغوث هي المعنية بتوفير الخدمات الصحية والتعليمية في اطار التفويض الممنوح لها من قبل الجمعية العامة للامم المتحدة، لكن من الطبيعي ان هناك امور تخرج عن نطاق صلاحيات الوكالة، وهي بالتالي من مسؤولية الدولة المضيفة، المعنية باحترام الحد الادنى من حقوق اللاجئين الفلسطينيين الانسانية، وهذه قضية لا نعتقد ان احدا يمكن ان يجادل فيها، لكن ما ينقصها هو الترجمة الفعلية عبر تشريعات قانونية تراعي اوضاع لبنان، كبلد، وخصوصية الفلسطينيين، كلاجئين من نوع خاص..
3) طالما ان الازمة انعكست على جميع المقيمين، فان منطق الامور ان تشمل الاستراتيجيات الاقتصادية والاغاثية للحكومة اللاجئين الفلسطينيين، خاصة بما له علاقة بتداعيات رفع الدعم الحكومي الذي من شأنه ان ينعكس على الفلسطينيين بأشكال مضاعفة. لذلك يصبح مطلوبا من الحكومة، وبالتنسيق مع الاونروا ومنظمة التحرير الفلسطينية، ايجاد طريقة وآلية تضمن تخفيف تداعيات الازمة، وهذا يشكل مصلحة لبنانية، وعلى ارضية ان الامن هو حزمة متكاملة من القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية وليس فقط أمن بالمعني المجرد، وبالتالي فمصلحة لبنان واللاجئين هو استقرار اوضاع المجتمع الفلسطيني واشعاره انه محتضن من بيئة سياسية واجتماعية، خاصة وان له وضعه الخاص الذي يتميز ويختلف به عن بقية المقيمين في لبنان من غير المواطنين، وباعتباره صاحب قضية وجزء من شعب لا زال يناضل من اجل حقوقه الوطنية..
4) على خلفية الازمة المالية التي تعيشها وكالة الغوث، نتيجة الاستهداف المباشر الذي تتعرض له من الثنائي الامريكي الاسرائيلي، والذي كان من نتيجته حصر الوكالة في اطار صلاحياتها التقليدية ضمن نطاق البرامج العامة، دون مراعاة ما يستجد من حالات انسانية تستدعي تدخلا مباشرا من الوكالة، فان هناك مسؤولية سياسية وانسانية واخلاقية على لبنان لجهة السعي من اجل معالجة الازمة المالية للوكالة، خاصة وان لبنان يترأس اللجنة الاستشارية في دورتها الحالية، وبالتالي فهناك مصلحة للبنان، كما لفلسطين، بتحييد وكالة الغوث وحمايتها من تداعيات الاستهداف الامريكي، الذي من شأن استمراره ان ينعكس سلبا على اكثر من مجال..
5) من القضايا التي التزمها لبنان عبر بياناته الوزارية السابقة، قضية اعمار مخيم نهر البارد الذي ما زال ينتظر وعود رئيس الحكومة في تلك الفترة بأن النزوح مؤقت والعودة مؤكدة والاعمار حتمي، وها نحن قد دخلنا العام الخامس عشر ولا زال اهالي المخيم ينتظرون توفر الاموال لاستكمال اعمار ما تبقى من منازل، اضافة الى قضايا التعويضات وغيرها من امور اثقلت كاهل الاهالي، خاصة في هذه المرحلة حيث انعدام القدرة على التصدي لتداعيات الازمة بدون دعم حكومي ودولي..
اخيرا وفي ظل الحديث عن اصلاحات ستعتمدها الحكومة في المجالات السياسية والقانونية والاقتصادية، فان احدى طموحات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هو ان تكون قضاياهم من ضمن العناوين التي ستشملها الخطط الاصلاحية، سواء ما يتعلق منها بضرورة تعديل بعض القوانين التي اكدت التجارب السابقة انها قاصرة عن الالمام بكل قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، او اقرار ما يجب اقراره من قوانين تفرضها المصلحة المشتركة، او ما يتعلق بضرورة تغيير النظرة وطريقة التعاطي مع الوجود الفلسطيني برمته، والتي هي مقتصرة اليوم على نظرة واجراءات امنية ما زالت متواصلة منذ العام 1948..
وتبقى القضية الاساس التي اضرت باللاجئين الفلسطينيين في لبنان ودفعوا اثمانا باهظة بسببها، وهي ضرورة ابعاد الحالة الفلسطينية عن التجاذبات الداخلية ووضعها في اطارها السياسي والقانوني والانساني الصحيح.. فلم يعد منطقيا ان كل قضية انسانية بسيطة ومحقة باتت تتطلب توافقا واحيانا اجماعا طائفيا وسياسيا وشعبيا لبنانيا من اجل اقرارها، بل بات على الجميع، لبنانيين وفلسطينيين، البحث عن ارضيات مشتركة، وهي كثيرة، وعلى قاعدة التسليم بموجبات السيادة اللبنانية بكافة تفاصيلها، وايضا الاعتراف بالحقوق الاجتماعية والانسانية للفلسطينيين. وهذا امر ينبغي ألا يكون موضع معارضة من احد.
بيروت في 25 أيلول 2021
* فتحي كليب - عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com