من أدبيات مخيمات العمل التطوعي في الناصرة :
وجدتني الآن وأمام هذه الأيام " الكورونية" الثقيلة والمتعبة بكل جوانبها، وعلى صفيح شهر آب الحار، والحار بكل أحداثه، وجدتني أستذكر حنينًا لأيام مخيمات العمل التطوعي لبلدية الناصرة الجبهوية، عدت واللهفة الجامحة تغمرني الى اوراقي القديمة لأجد مقالة لي بعنوان " صديقي ومخيم العمل التطوعي" وذلك " نحو مخيم العمل التطوعي الثامن،" ١٧ إلى ٢٢-٨-١٩٨٣" . وقد تم نشرها في صحيفة الاتحاد في تموز عام ١٩٨٣ ، وقد شملت حوارًا جادًا وحادًا مع أحد الأصدقاء المترددين حول أهمية هذه الأعمال التطوعية. أعيد نشرها وكما جاءت من جديد :
تصطدم احيانا بأناس لا يرون الحقيقة أو يتعامون عنها وهي كالشمس شامخة وواضحة أمام انظارهم. للوهلة الاولى تحسبه غشاء شفافا، دقيقا، ذلك الذي يحجبهم عن رؤية الحقيقة واستيعابها. لذا تحاول فضه برقة وبأطراف أناملك تحس بخشونة فتزيد الشد والضغط هباءً. ذات يوم ودون سابق انذار جاءني صديق اعرفه معرفة سطحية، ابتدأنا بالسلام والسؤال عن الصحة والأعمال ، ثم تشعبنا في الحديث والكلام شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا حتى أعيانا الحديث وحسبته ينهي وننتهي واذا به يسأل بقوله : هل سمعت ؟ وتوقف.. فاجبته كمن أعياه طول الكلام.. وماذا بعد!
ما الخبر؟
قال: المنشورات وما أكثرها هذه الايام وفي هذا البلد.. قرأت احداها اليوم عن الاستعدادات لمخيم العمل التطوعي السابع في الناصرة.. وأضاف- بربك هل تعتبر هذه المخيمات التطوعية التي تقيمها البلدية مخيمات عمل وكرامة ام مخيمات اناشيد وخطابات وكلام فارغ، واستطرد في تعليقاته وتهجماته حتى أخرج كل ما فيه من قرف المعلومات المزيفة.. وسكت عن الكلام "المباح" .. وكنت جميعي من رأسي حتى أخمص قدمي آذانًا صاغية حتى أنهى..
قلت: آه اذن أنت أحدهم، قال ؛ من هم ؟
قلت : أصحاب الأغشية. قال :ماذا تقصد؟
نظرت حولي ابحث عن شيء أفض به الغشاء، فلم أجد، تحسست ملابسي فوجدتها جافة كجفاف افكاره.. نظرت اليه متمعنّا فوجدته كالملهوف ينتظر جوابًا فبادرته بقولي: اسمع يا هذا ، لقد أقسمت سابقًا بأن لا احادث أو اناقش أصحاب الأغشية ابدًا .. لكني سأضع هذه المرة قسمي جانبًا وأعتبره كأنه لم يكن.. فاصغ لي جيدًا .. أنا مثلك ابن للناصرة.. لهذا البلد المقدس.. أرى عكس ما ترى وعكس ما تقول.. وتابعت كلامي بضبط أعصاب شديد: نحن اذ نقوم بهذه الأعمال التطوعية انما نفعل ذلك لضرورة حتمها علينا واقعنا المرير وظرفنا القاسي في هذه البلاد.. انها ظروف قهرية تحتم علينا بالمقابل مجابهتها وتحديها بالوعي والعمل، فما الأعمال التطوعية إلا شكلًا ومضمونًا من أشكال ومضامين نضالنا وكفاحنا وتحدينا لهذا الواقع القهري، ومن نبع الاحساس الوطني الواعي والمتكامل .. الاحساس بالواحب تجاه أنفسنا وبلدنا التي لا بلد لنا غيرها، فاذا لم نقف فمن تنتظر ان يقف معنا؟ واذا لم نحمل أنفسنا فمن يا ترى سيحملنا نحن؟
قال: من أنتم؟
قلت: نحن أبناء هذا البلد.. شرفاؤه.. البقية الباقية من شعب أرادوا له ان لا يبقى على أرضه.. أرض آبائه وأجداده.. فبقيت بقية منه أبت الذلَّ والاستجداء ، ضمدت جراحها بنفسها.. وقامت رويدًا رويدًا من هول النكبة، ومن بين الأنقاض شقت طريقها وتحدَّت الجلاد فتجلدت وتمرست ونمت نمو المتشبث أبدًا بالأرض.. نمو الجذور الضاربة عمقًا في أعماق الأرض ونمو الساق الشامخة أبدًا.. متحدية كل أنواع المعوقات الموجهة ضدها مصممة بوعيها الصائب والمكتسب من تجاربها القاسية التي لم تذهب هدرًا وهباء، على ان تستمر في الحياة وتورق وتزهر وتثمر الثمر الناضج لتنشر بذورها من جديد لتتجدد على أرضها، وطنها، وطن الآباء والأجداد ولتزيد من كمها كمًا ومن كيفها كيفًا.
يا صديقي، لم يحلم الجلاد يومًا أن يرى هذه الشجرة .. هذه البقية التي لم تعد بقية.. كما يراها اليوم عملاقة شامخة.. بل أرادها ذليلة، ساقية تسقي له، وحطابة تحطب له، وعبدة تؤمر فتنفذ.. أرادها فاترينة للدمقراطية وحسن الجوار يتباهى بها بين الأُمم.. فانقلبت حساباتهم رأسًا على عقب، فلا سقاة نحن الآن ولا حطابون.. لا عبيد ولا ڤاترينات زينة .. نحن شعب واع متكامل.
والآن يا صديقي بعد ان تجاوزنا تاريخيًا واجتماعيًا وفكريًا مرحلة الانبات لمراحل النمو والإزهار والإثمار وبعد أقسى وأعتى تحربة، نما وبزغ نور الجبهة، رمز الوحدة الوطنية لشعبنا وانتخب أبناء شعب الناصرة، أبناء هذا البلد المقدس بلديتهم الشريفة بأعضائها الجبهويين وبأبنائها البررة، نرى بزوغ هذا النور حتميًا لنضال وصراع طويل ومرير، لذلك رأينا أن نحمي ونصون ما أنجزناه بكل ما أُوتينا من قوة وقدرات وامكانيات من اعداء هذا النور الساطع من الجلادين الكبار حتى عشاق ذبح "البقرة المقدسة" المحليين الصغار.
اننا الآن يا صديقي على أعتاب عرس العمل والكرامة الذي أصبح تقليدًا وطنيًا تعتز به جماهيرنا العربية في البلاد عامة وفي الناصرة خاصة، انه صورة من أبهى صور شعبنا نفاخر بها العالم ونعزز فيها صمودنا وثقتنا بشعبنا وبطريقنا الصحيح، إنه صفعة قوية على وجه المغرضين .
قال: كلام جميل، ولكن..
قلت: كلام جميل لواقع أروع وأجمل.. إننا ندرك كل الإدراك واقعنا المحلي وندرك أن بيننا أقزامًا محليين انتهازيين يتطاولون بقاماتهم القصيرة على شعبهم العملاق.. ولو اصطفوا طابورًا واحدًا واعتلى الواحد منهم على رأس الآخر على أن ينالوا ظفر ما أنجزه هذا الشعب لما استطاعوا لذلك تحقيقا، فهم أصحاب مبدأ الركوع وقطف الرأس .. هم اللاهثون وراء الكراسي ولا هَمَّ لهم سواها.
قال: لكن السلطة تعينهم على الارتفاع ..
قلت: لأن السلطة تعينهم ، وهي لا تعين إلّا مَن يخدمها، فإن هذه العدة لن تجد مكانًا لها على صخرة وحدة صفنا.
قال: اذا كنتم موحدين ومتراصين
قلت: نحن كذلك، ولكن بالطبع اذا كنا..
قال: والآن .. ألا تراني .. من اصحاب الأغشية.
قلت: ....
قال: سأتطوع للمخيم .. لمخيم العمل التطوعي السابع.
قلت: موعدنا في صباح الغد
قال: وهو كذلك.
وفي صباح اليوم التالي لمحته يبحث عن فرقة عمل يلتحق بها وابتسامة عريضة تحتل مساحة وجهه كلها.. راقبته حتى انضم لاحدى فرق العمل التطوعي متوحهًا على متن إحدى سيارات المتطوعين الى ورشات العمل الشريف.. وذهبت بدوري مع رفاق آخرين الى ورشة عمل أُخرى.
وفي المساء الأول.. أي مساء وأي مساء ... مساء مضاء بوجوه أبطال العمل التطوعي القادمين طوعًا من قرانا وبلداتنا العربية من داخل "الخط الأخضر" وخارجه، عربًا ويهودًا وأجانب .. يلتقون على الحب والأُخوة والسلام والانسانية، لا فوارق ولا أسافين بينهم، وحدة متراصة سقط عنها كل مغرض ومتعصب ومزايد وكل غبار اللهم غير غبار العمل التطوعي .. غبار عرس العمل والكرامة.. تراهم وانغام الموسيقى الهادفة تطربهم وتستجيب لأذواقهم المشتركة .. يعتصرون ويمتصون من واقعهم المرير قطرات الفرح لتروي ظمأهم للحياة الكريمة.. قطرات فرح اعتصروها بأنفسهم لتغمرهم جميعًا فرحًا ما بعده فرح.. انه الفرح الأعظم هم صانعوه.
كنت واحدًا منهم أبحث عن واحد أصبح منا ، صديق الأمس، فما أن لمحني حتى لمحته فاندفعنا كالذي وجد ضالته نحو بعضنا نقصِّر المسافات بيننا حتى تلاشت تمامًا، وسادنا ما يشبه الصمت حتى فضَّه بقوله : ما أروعه من يوم..
قلت: ماذا فعلتم؟
قال: ما أن وصلنا ورشة العمل حتى بدأنا جميعًا العمل شبانًا وشابات ، حفرنا أساسًا لجدار واقٍ ، وخلال الحفر غمرني شعور عنيف انعكس بعنفه على طريقتي في الحفر حتى أنساني هدف الحفر نفسه وصرت أشعر بأني أحفر قبرًا لأفكاري السابقة المحشوة قرفًا وزيفًا، فحفرت وحفرت عميقًا .. عميقًا جدًا .. ففاجأني أحد بقوله: ماذا تفعل؟
لم أُجبه.. وكان العرق يتصبب من جميع خلايا جسمي..
فقال: يا أخي نحن لا نريد إلّا أساسًا لهذا الجدار.. وحان موعد الغداء اذ قامت نساء الحي بتحضير الطعام تطوعًا، قمت وانضممت الى اخوتي على مائدة الطعام الشهي وما أن انتهينا حتى اتت سيارة المخيم ونزلت منها فتيات متطوعات يحملن طناجر المجدرة والسلطة ، فما أن رأيناهن حتى انقلبنا جميعًا على أقفيتنا ضحكًا ، ففهمن القصد ورجعن بطناجرهن المليئة من حيث أتين. وأكملنا العمل بحماس ، وكانت أغانينا الوطنية المنبثقة من أحشائنا وصميمنا والممزوجة بأصوات "الشواكيش" والفؤوس تنبعث وتنتشر في بيوت الحي حتى حفظها عن ظهر قلب ، صغار الحي وكباره واصبحنا كلنا نحن وأبناء الحي صوتًا واحدًا متجانسًا .. كتلة عمل ونغم يغذي بعضنا بعضًا برغبة وسرور.
قلت: اذن كان يومًا جميلًا كما اسلفت..
قال: لا أروع ولا أجمل وكذب المنافقون.. انني أنتظر الغد بفارغ الصبر.
قلت : إن غدًا لناظره قريب
وكان الغد وبعد الغد وبعدهما بأعمالهم ولياليهم.. وفي الليلة الأخيرة التقيته منزويًا على أرض المخيم وعيناه مغرورقتان بالدموع .. تصافحنا بحرارة، فسألني ضاحكًا : متى نبدأ حوارنا الجديد
فقلت: يا أخي ، إن مخيم العمل التطوعي الثامن قريب، قريب".