كان الشاعر الأديب الراحل البروفيسور فاروق مواسي، كتب قصيدة مؤثرة وموجعة يشعر فيها بدنو أجله، لم ينشرها من قبل، ووجدها أفراد عائلته في جواز سفره، وهو الذي عرفناه مرحًا بشوشًا، شغوفًا وعاشقًا للحياة حد الثمالة، محتفيًا بالفرح، يعمره التفاؤل دائمًا رغم كل الألم وبؤس الواقع المعاش.
وقد نشرت هذه القصيدة في كتاب "حارس الضاد" الصادر بمناسبة مرور الذكرى السنوية الأولى على رحيله، ووزع في الحفل التذكاري الذي أقامته كلية القاسمي، وقام بإلقائها وأسماعها الكاتب الإذاعي نادر أبو تامر في هذا الحفل.
وهذه القصيدة تنام وتنهض على سرير الانفعال، وفيها ألم ووجع وحزن شديد، وتحسر على أيام الشباب، وإحساس داخلي عميق بالنهاية وبالأفول والغروب واقتراب الموت المحتوم، وفيها ينصهر مع اللحظة الشعورية، ويبوح ما يعتمل في صدره ونفسه واعماقه من مشاعر صادقة وحقيقية بتعب القلب، واقتراب الرحيل عن الدنيا، وكما عودنا فإن نصه مسكونًا في ذاته، وذاته مسكونة في نصه أولًا وقبلًا، وفيها يقول:
أيها الآباء
أيها الأصدقاء
أيها الأحباء
تخيلّت نفسي وقد تجاوزت العّقْدَ التاسع...
كثير من الفراغ
كثير من الإعياء والمرض والنسيان
كثير من الحبّ لأحفادي وابنائهم
كثير من الحنان
كثير من الاعجاب بنهضة مباركة من هذا الشعب المبارك
كثير من الإيمان بالله
والحب لله
والاتكال على الله
ومع هذه الكثرة الكاثرة أقول بلسان الشاعر الذي لا بدّ أن...
أحسّ النهاية والغروب
أحسّ القلة والعَدَم
فاعذروني
إذا كانت الصورةُ سوداءَ قاتمة
ماذا بقي يأيها الشقيّ
يأيها التقيّ
هل ظلّ في القنديل زيت
فربما يعود...
يا لَيْتَ يعودُ يا ليت
يكفي لتبقى الشعلةُ الضئيلة
لفترةٍ أخرى قليلة
حتى يضيء البيت وتحتمي الجميلة
وكيف والقنديل يخبو ضوءُه
من غير زيت
وكيف والبحر سيعلو نوؤه؟
فيل لقلبي يا له!
قد جَفّتِ الذُّبالة
ولم يعد في الكأس الا الثمالة
وما غَناه الثمالة؟
آه على الشباب آه
وآه
إذا تحركت عقاربُ الحياة
فحركتْ قوافل الأيامْ
وسافرتْ دفعًا لشاطئ الأحلامْ
في رحلة ليس لها أمان
تدفعني دفعًا لشاطئ الزمان
وقد مضى الزمان
وقد مضى الزمان ... انكرني المكان
فهذه متاهةُ النسيان
وغربة قريبةُ الأسباب
بعيدةٌ ليس لها إياب
في جوها يختنق الضباب
ويلفظُ القنديلُ ضَوْءَه
تتوه في وادي الظلام ذكرياتي
وتنطوي صحيفتي
واغيبُ عن ذاتي
وأصيرُ بضعةَ أسطرٍ في صفحةِ الوَفَياتِ
وعند هذا تَكْمُلُ الحكاية
وتنتهي الرواية
ويُسدَلُ السِتَار
ويُسدل الستا
ويسدل السْ
ويسد
وَيُ
و
وفعلًا، فقد أسدل الستار وتوقف قلب أبي السيد البروفيسور فاروق مواسي، وغاب إلى ألأبد من كان يكتب كي لا يموت، ورحل قبطان اللغة والأدب في فلسطين، الإنسان المرهف الطيب، والمبدع المتوهج، مرهف الحس للمعنى، المتمرد على أشكال الكتابة، الذي درج أن يهرب من المقال إلى القصيدة، أو فضاء النص، وباستمرار، وكانت ثمة أجنحة تحرك جذوة الإبداع في داخله وأعماقه، وهذه الأجنحة هي الواقع السياسي والوجع الفلسطيني المتواصل والهم الاجتماعي.
ورغم هذا الرحيل الموجع والقاسي فسيظل حارس الضاد الشاعر فاروق مواسي خالدًا ومخلدًا بما تركه من إرث أدبي وثقافي هائل وأعمال إبداعية في الشعر والقصة القصيرة والنقد الأدبي والتراجم والترجمات والسيرة الذاتية.