خطا عدة خطوات في بهو بيته الضيق. توقّف لحظةً مفكرًا فيما عساه يفعل لتجاوز ازمته. بدا أنه لم يجد الحل لمعاناته. توجّه إلى المرآة في غرفة نومه. أرسل نظرةً غامضةً إلى شخصه في المرآة. ابتسم" والله انك لا تستحق كل ما يحصل لك يا مسرور". سوّى شعره على طريقة محبوب طفولته ومعلّمه كازنوفا. عاد إلى ابتسامته ثم ما لبث أن عاد إلى توتره.
ماذا تراه يفعل؟ ليضع النقاط على الحروف وليحسم أمره. ماذا يفعل ليتأكد من أن واحدة من عشيقتيه، القديمة وديعة والجديدة شفيعة، لن تشارك في الرحلة الموعودة اليوم؟ او لا يمكن أن يحصل طارئ يعيق إحداهما عن الحضور في اللحظة الاخيرة؟ أو لا يمكن أن تقع معجزة تمكّنه من الالتقاء بإحداهما دون وجود الاخرى؟ خارجيًا هو دفع مقابل الرحلة ورتّب كل شيء كما يريد ويهوى. رتب ان تحضر شفيعة وبذل كل جهده ليحول دون حضور وديعة. غير ان رياح الترتيب جاءت على غير ما اراد وخطط. هما الاثنتان ستحضران معا، هذا ما تأكد منه.. من منظم الرحلة صديقه اللزوم. " لا.. لا الافضل لك الا تشارك في هذه الرحلة المشؤومة برفقة امرأتين كلٌ منهما تنفي الاخرى".
توقّف قُبالة مرآته. " والله انك لا تستحق ما يحصل لك يا مسرور". ردد بصوت هامس. نظر إلى ساعته في يده إنها السادسة. هناك ساعتان حتى تصل العقارب الملعونة الثامنة. موعد الباص للانطلاق في رحلة كان من الممكن أن تكون الاحلى في العالم لو أن إحدى الاثنتين قررت في النهاية ألا تحضر. ماذا تراه يفعل والوقت يفغر فاه حائرًا متثائبًا؟ ليتوجه إلى حاسوبه ليحاول الاتصال/ الدردشة معهما كل على حدة. والله انها فكرة مبتكرة.. كيف لم تخطر له من قبل؟ ألم يعتد في السنوات الاخيرة، بعد طرده من عمله مديرًا مصرفيًا إثر فضيحة جنسية مجلجلة، على ان يقدم على فعل ما يريد ويهوى من افعال جدية دون تفكير؟ ألم يعتد على التفكير خلال انطلاقه نحو هدفه؟ بلى هذا ما اعتاد عليه. مد يده إلى" فارة" حاسوبه فظهرت صفحته على الفيس بوك كأنما هي تناديه. ضغط على اسم وديعة فانفتحت طاقتها الالكترونية. بعدها ضغط على طاقة شفيعة. كتب لكل منهما على حدة: هل ستحضرين؟ فردت الاثنتان في وقت كاد يكون واحدًا موحدًا: نعم سأحضر. فرد بسرعة: "انا سأحضر أيضًا. لكن يبدو ان عائقًا سيحول بيني وبين الحضور. على كل حال سأحاول ان اذلل هذا العائق لأحضر، فانا لا استطيع إلا أن احضر". كتب هذه الكلمات وهو يتمنّى أن تحصل معجزة تحول دون حضور إحداهما ولتكن وديعة بإذن الله.. " إذا ما حصل هذا سأطير بجناحين من رغبة وسوف الحق حافلة الرحلة محلقًا بجناحين من شوق ورغبة". همس لنفسه وهو يصرُّ على ناجذيه.
*
وصلت كل من وديعة وشفيعة بفارق زمني لا يتجاوز الثلاث دقائق. وربما بفارق دقيقتين فقط. لا أحد يعرف الفارق لشدة اللهفة. وهل يمكن لملهوف أن يحدّد الوقت بدقة عادية؟ توقفت الاثنتان، احداهما قبالة الاخرى، وضعت حقيبتها اليدوية على الارض. في حين وقف باص الرحلة قُبالتهما. من البعيد اطلت سيارة تقلّ مشاركًا في الرحلة. توقفت الاثنتان عن تبادل النظرات وانصرفت بكليتها لمراقبة القادم. كانت كل منهما، هما الاثنتين، تتمنى أن يكون مسرورًا قد تغلّب على عائقه. فطار ليشارك في الرحلة إلى جانبها. ترجل القادم من السيارة. لم يكن هو وإنما كان شخصًا آخر. "كم تمنيت أن يكون هو مسرور". همست كلٌّ منهما لنفسها دون ان تسمعها شريكتها. تكرّر هذا المشهد مرةً اخرة. في المرة الثالثة تقدّمت وديعة من شفيعة وسألتها مَن تنتظرين؟ فردّت شفيعة وأنت من تنتظرين؟ واصلت وديعة تقول لشفيعة أنا مَن ابتدأت السؤال وعليك أن تجيبي أنت أولا.. بعدها أجيبك. رفضت شفيعة إلاستجابة لوديعة. هكذا تعقّد الامر بين الاثنتين ولم يكن أمامهما في النهاية سوى الاتفاق. وكان أن اتفقتا على أن تكتب كل منهما اسمَ من تنتظر وصوله على ورقة تقوم بطيها. وأن تعطيها لمحدثتها. نفّذت كل من وديعة وشفيعة ما اتفقتا عليه. وما أن فتحت كل منهما، هما الاثنتين، ورقة الاخرى، حتى فتحت فمها على وسعه من شدّة الدهشة.. لقد تضمّنت كلٌ من الورقتين اسمًا واحدًا هو... مسرور.
مضى وقت اطول من عادي حتى عادت المرأتان إلى توازنهما المفتقد وجرى بينهما حوار حائر فهمت كل منهما أنها كانت ضحية لرجل يتقن اللعب على أكثر من حبل. وانه تمكّن من الايقاع بها في حبائله مع فارق واحد هو أن وديعة سبقت قرينتها شفيعة.
بعد لحظات حفلت بالكلام والصمت سألت شفيعة هل تعرفين أين يقيم مسرور؟ فردّت وديعة بالإيجاب. فما كان من شفيعة إلا أن تُدني فمها من اذن وديعة وتهمس فيها مقترحة عليها فكرة تضع حدًا لكل ما طالهما من معاناة.. انتظار وترقب. لمعت عين وديعة مُرسلة اشارة تشبه اشارة عين من قبالتها وانطلقتا تاركتين حقيبتيهما وراءهما.. قرب حافلة الرحلة.
*
توقّف مسرور قبالة مرآته في غرفة نومه أكثر من مرة وراح يردّد مقولته الخالدة" والله انك لا تستحق كل ما يحصل لك يا مسرور". واضاف لكن عليك أن تفعل شيئًا. توجّه إلى نافذة بيته المطلة على الشارع. كان اليوم جميلًا فعلًا إنه يوم يليق بالرحلات وبصحبة الجميلات، لكن أنىّ لك أن تشارك في رحلة تكون فيها عشيقتان إحداهما باتت قديمة والاخرى جديدة. بدا أن مسرورًا شعر بضيق من تفكيره السخيف هذا فراح يتأفف ولم يخرجه مما هو فيه سوى امرأة فاتنة كانت تقترب من مقعد هناك في وسط الحديقة العامة القريبة من مسكنه. نسي مسرور كلَّ شيء بما فيه الرحلة والمرأتان.. حتى أنه كاد ينسى نفسه. ولم يهدأ له بال الا عندما شاهد تلك المرأة الغريبة الفاتنة تتخذ مقعدها الخالي هناك في الحديقة البعيدة.. القريبة.
اتخذ مسرور مقعده قريبًا من مقعد تلك الفاتنة مُظهرًا عدم الاهتمام بها " فانت عندما تريد الايقاع بطائر عليك ألا تشعره بغايتك لأنه حينذاك سيفر بعيدًا" قال مسرور وواصل" دعها جالسة بدعة. مؤكد أنك لن تعدم الفرصة لتتحدث إليها ولتتسلل بالتالي إلى مكامنها القصية.. سيكون اسهل عليك الدخول إلى عالمها إذا ما كانت عاشقة هجرها حبيبها وانصرف إلى اخرى".
تجمّد المشهد على هذا النحو. مسرور على مقعد وامرأة فاتنة تجلس على مقعد قُبالته. ولم يتحرّك مسرور من جموده إلا حينما لمح امرأتين تغذان الخطى باتجاه بيته. وسرعان ما تبيّن له انهما هما من هرب منهما وديعة عشيقته القديمة وشفيعة محبوبة روحة الجديدة. بسرعة هائلة ربط الخيوط الفالتة وضفرها معا جادلًا اياها بذكاء مدير مصرف قديم طُرد من عمله شرّ طردة. وادرك ما كان سيحدث لو أنه بقي في بيته يوجه سؤاله الخالد " والله انك ما بتستحق كل اللي بحصل لك يا مسرور". ووقف من فوره وطار باتجاه حافلة الرحلة تاركًا تلك الفاتنة واحلامه بها وراءه.. فقد اكتشف في اللحظة الاخيرة عمق ما رتبت له تلكما المرأتان من مقلب كاد يقضي عليه.. لولا رحمة الله.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com