يأخذ الكاتب الامريكي جاك لندن قارئ قصصه ورواياته، إلى عوالم انسانية رحبة تنتصر للفقراء والمساكين وترفع لواء الانسانية المعذّبة مهيضة الجناح، وبإمكان من يُطالع أيًا من اعماله القصصية والروائية، ان يلمس تلك الروح الانسانية المتوثبة، التي كتب منطلقًا منها، عن الانسان في الغابات والبحار البعيدة.
ولد جاك لندن في سان فرانسيسكو الامريكية عام 1876 لوالدين غير متزوجين، وكان والدُه رجلَ دين عمل في السحر والتنجيم، وقد توفي لندن عام 1916، عن عمر ناهز الاربعين عامًا فقط، (يقال انه مات منتحرًا)، تاركًا ارثًا ادبيًا غنيًا تمثل في اكثر من خمسين كتابًا، ترجم معظمها الى العربية، اذكر منها:" تحت سماء الجليد" صدر في الستينيات عن مجلة "شعر" ضمن سلسلة "روائع القصص العالمي"، "الناب الابيض"، صدر ضمن منشورات وزارة الثقافة السورية، و"قبل ادم"، صدر ضمن منشورات سلسلة "روايات الهلال"، المصرية الشهيرة قبل سنوات، ولعل زيارة سريعة لمن يرغب للشبكة العنكبوتية "غوغل"، تقدم المزيد من المعلومات عن المزيد من مؤلفات لندن المترجمة الى العربية.
يرى النقاد والباحثون ممن تعرّضوا لحياة لندن وانتاجهِ الادبي السردي، ان شخصيته المعذبة المغامرة انعكست في كل ما كتبه وانتجه خلال عمره القصير، وان ثمرة عطائه لم تسقط بعيدًا عن شجرة ابداعه وانما اقتربت منها اقترابًا شديدًا، فهو يتخذ من عالم البحار مرتكزًا اساسيًا لمعظم كتاباته، لا سيما في كتابه "بين الجزر"، الذي نتحدث عنه فيما يلي، ان من يتابع تفاصيل حياة لندن المنشورة يلاحظ ان طفولته لم تكن سهلةً وانه عمل في اعمال جسدية متنوعة ومختلفة، كما انه سافر في يفاعته، قبل بلوغه سن السابعة عشرة بقليل، على سفينة قراصنة إلى بلدان الشرق الاقصى، وانه عاش رحالةً متنقلًا في ربوع العالم واصقاعه البعيدة، ما وفّر له ذخيرةً لا ينضب لها معينٌ من القصص والتجارب الثرة الغنية. وهو ما هله بالتالي لأن يكون الكاتب الامريكي الاشهر في العالم ابان الربع الاول من القرن العشرين. مع اشارة لا بد منها وهي انه ما زال مقروءًا في جميع انحاء العالم.. حتى ايامنا الراهنة.
في كتابه "بين الجزر"، (لم يترجم إلى العربية فيما اعلم كاملًا)، نُطالع ثلاثًا من قصصه المؤثرة والمعبّرة، هي مابوهي، وقد سبق وترجمها جوفر حداد في كتاب "تحت سماء الجليد"، المشار اليه آنفًا. ماوكي، ومنحدر من عنصر مك - كوي. هذه القصص تتصف بالطول النسبي، وتتحدث الاولى عن اسود فقير يعثر على لؤلؤة ثمينة جدًا قد تكون الاندر والاثمن في العالم، وتبدأ برسوّ سفينةٍ تجاريةٍ قرب الجزيرة التي يقيم فيها. احد المتبطلين السود يخبر قائد السفينة، ان مابوهي، بطل القصة، عثر على لؤلؤة ثمينة، فيتوجّه هذا (التاجر)، إلى مابوهي ويسأله كم يريد ثمنا للؤلؤة فيطلب منه هذا ثمنها بيتًا ذا مواصفاتٍ تروق له، ويبدو انه يتمنّاها. يبذل التاجر اكثر من محاولة للحصول على اللؤلؤة الثمينة دون الاستجابة لعارضها للبيع، اقصد مابوهي، وبالتالي بناء بيت له، إلا انه يخفق، فيغادر المكان، لترسو سفينة تاجر آخر. المتبطل المشار إليه يخبر هذا التاجر ان مابوهي عثر على اللؤلؤة النادرة الثمين، فيتوجّه هذا من فوره ويسأل مابوهي عن لؤلؤته النادرة، بعدها يطلب ان يريه اياها فيستجيب له مابوهي. يضع التاجر الثاني الجوهرة في جيبه ويُخبر صاحبَها المسكين، انه بهذا يكون قد استد دينًا كبيرًا له عليه، وانه سيقدم له ما تبقى.. المتبقي من ثمنها، وفق تقديره، عندما يبيعها بالثمن المتخيل. بعدها تتطوّر الامور لتهب عاصفةٌ على الجزيرة تجرف كل شيء في طريقها، وتجد والدة ما بوهي نفسها وقد جرفتها المياه بعيدًا بعيدًا، لترى من بعيد جثة ذلك التاجر وقد طفت على سطح الماء بعد ان غادرتها الحياة، تبحث الوالدة في ملابس هذا التاجر لتعثر على اللؤلؤة الثمينة، لتأخذها وتنطلق بعد ذلك في رحلة العودة إلى حيث ابنها وزوجتُه، ويبدع الكاتب هنا في الوصف والتخييل القصصي، فيصف لنا كيف قصّت الوالدة شعرها المسترسل بقطعة حديد حادة عثرت عليها قريبًا منها لتصنع منه حبلَ خلاصِها من الغرق، في مياه العاصفة والفيضان، ولتستقل بعدها بقايا قارب طافية.. يوصلها إلى حيث يقيم ابنها مابوهي وزوجته. القصة تنتهي بعودة اللؤلؤة إلى اصحابها الفقراء، بعد ان انتزعها من بين ايديهم ذلك التاجر الفاجر!!.
القصة الثانية "ماوكي" تتحدّث عن طفل اسود وديع ايضًا، منذ اختطافه من مملكة والده وهو لما يزل طفلًا صغيرًا، حتى عودته إلى بلده واستعادته ملكه، مرورًا بالعذابات المريرة التي عاشها من اختطاف إلى آخر، وعن محاولاته المتكرّرة للهروب، تلك المحاولات التي تتكلّل في النهاية بالنجاح بعد ان يتمكن من قتل مضطهده ومنتهك حرمته الانسانية. القصة الثالثة تتحدث عن سفينة ملتهبة وعن شخص اسود ينتسب إلى عنصر الماوك كوي، هذا الشخص يفلح في ايصال البحارة الى بر الامان والنجاة.
فيما يلي اسجل ملاحظتين أراهما هامتين، اولًاهما انه لا توجد هناك مصادفات يمكن ان تخل بالسرد القصصي اللندني، فنحن في قصة مابوهي مهيؤون منذ البداية لاحتمال العاصفة، ونحن في القصة الثانية نعايش الشخصيات بكل تشعباتها، لنجد انفسنا في النهاية امام قصة ضُفرت اطرافُها ببراعة وحذق فني واضح. وقُل مثل هذا عن القصة الثالثة. اما الملاحظة الثانية فقد سبق والمحت اليها، وهي، اضافة الى ما قلته، تتمثّل في اثارة الكاتب لقضايا انسانية تحترم الكائن البشري وترى فيه القيمةَ العليا في الوجود، وتبتعد عن التمييز بين إنسان وآخر على اسس عنصرية. ولا غرو في هذا، فقد عرف جاك لندن بمبادئه الاشتراكية الانسانية في حياته، افكاره وكتاباته، ولعلّ من يقرأ روايته الفريدة" العقب الحديدة"، يتأكد من هذا.. تمام التأكد.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com