الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 13 / نوفمبر 02:02

أجنحة الذاكرة/ تذكاريات طه- بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 03/06/21 12:35

ينفرد هذا المجلس عن سواه من المجالس التي ضمتني مع آخرين وتركت اثرًا لا ينسى في حياتي، بأنه اشتهر وعرف وكتب عنه في اكثر من مجلة وكتاب، علما ان مقاعده حتى سنواته الاخيرة كانت تتكون اما من كرسي يحتاج الى نجار ماهر يصلحه وييسر امره ليضحي صالحًا تمام الصلاح للجلوس، او من تنكة زيت فارغة او حتى تنكة خيار فرغت وعافها صاحبُها فاستقرّت في دكان التذكاريات السياحية القائم في شارع الكازنوفا في مدينتي الحبيبة ناصرتي إلى الأبد.

صاحب هذا المجلس المعروف المشهور هو الكاتب طه محمد علي مؤلف القصص الذي سيصبح تاليًا واحدًا من اهم الشعراء الفلسطينيين الذين يشار اليهم بالبنان، وصاحب المجموعة الشعرية النثرية " القصيدة الرابعة"، وغيرها من المجموعات.
تعرّفت الى الصديق المرحوم طه محمد علي في أواخر الستينيات وذلك بعد ان ذاع صيته وردّدت الصحافة اسمه، بعد ان استقبل في دكانه الصغير الفيلسوف الفرنسي البارز جان بول سارتر، خلال زيارته للبلاد، وتبادل معه الحديث حول القضية الفلسطينية وتطوراتها الاخيرة آنذاك. عند زيارتي الأولى له كنت في غُرّة الشباب الاولى احلم ان اكتب اروع الكتابات في العالم وكان هو في قمة العطاء والوعي. ورغم ان الفارق الكبير في العمر بيننا، هو وانا، فقد استقبلني بحفاوة اشعرتني بإنسانيتي وبوجودي، ودفعتني لأن اشعر منذ اللقاء الأول أنني اعرفه منذ سنوات قد تتجاوز الزمن المعيش. في ذلك اللقاء قام بالترحيب بي حد الحفاوة، ودعاني للتردّد على دكانه، مُشيرًا ان كتاب تلك المرحلة وشعراءها امثال جمال قعوار وميشيل حداد يتردّدون يوميا تقريبًا على مجلسه.
اكتشفت بعد عدد من الجلسات أنني انتمي الى الجيل الثاني من زوار دكان طه، فقد سبقني مبدعون ملأوا الدنيا ادبًا وشعرًا، لعلّ ابرزهم هو الشاعر راشد حسين الذي كان طه يكن له كل مودة وتقدير وكثيرًا ما كان يروي اجمل الحكايات والطرائف عنه. وقد ذكر طه اكثر من مرة صاحب رواية " المشوهون" الكاتب توفيق فياض ابن قرية المقيبلة الذي قضى جُلَّ حياته في الشتات ليعود قبل سنوات من تونس الى قريته الاولى.
اعتقد الآن وانا استعيد ذكريات ذلك المجلس الذي بقي عامرًا حتى ما قبل رحيل صاحبه بفترة وجيزة لا تتجاوز السنوات القلائل، انه من الصعب على أي كاتب او مؤرخ تذكُّر كل من تردد على مجلس طه في فترته الاولى، وان الاجدر بنا أن نتساءل مَن مِن كتابنا وشعرائنا لم يكن يتردّد على مجلسه، فقد تردّدوا كلهم عليه وكثيرًا ما كان طه يردد اسمي الشاعرين سميح القاسم ومحمود درويش وكأنهما من اصحاب دكانه.
في الفترة التي انضممت فيها إلى مجلس طه انضم صديق آخر هو كاتب الاغنية والقصيدة العامية الشاعر سيمون عيلوطي، واذكر أن طه تنبأ لكل منا برؤيا.. لي ان اصبح كاتبًا مشهورًا ولسيمون ان يصبح مالكًا لدار نشر، وقد تحقّقت رؤيا طه هذه بعد مضي العشرات من السنين فقد ربا عدد ما اصدرته من كتب على الخمسين، اما سيمون فقد اصدر عددًا من المجموعات الشعرية بالعامية، كان احدها عن صفورية- بلدة طه المهجرة من اهلها حاليًا- واسس موقعًا الكترونيًا اطلق عليه اسم الموقد واوقف عمله قبل فترة لأسباب شخصية تتعلق به وبميله الى الكتابة.
التقيت في دكان طه كما اشرت في غير هذه المقالة بالعديد من الشخصيات الذين ستربطني بهم فيما بعد اواصر محبة وتقدير مثل حازم وديع زعبي، المحامي وليد الفاهوم صاحب المؤلفات المعروفة، لا سيما فيما يتعلّق بقضايا الاسرى السياسيين، كما التقيت بالمهندس المشهور ميشيل ابو نوفل، وكان مُحبًا شغوفًا بما تجود به قريحةُ مضيفِنا طه من ابيات شعرية قديمة وجديدة، وكان ميشيل مبهورًا بقدرة طه على السخرية من كل ما تقع عليه عينه، دون الاساءة الى مشاعر أي من زواره. وقد جذبني وجذب زوار طه العديد من الامور اذكر منها قدرتُه الرهيبة على الحكي والاقناع، وبإمكاني ان اقول في هذا السياق ان طه كان مِن اكثر مَن التقيت بهم من الناس قدرة على التعبير بطلاقة وسلاسة تكاد تكون نادرة، وكان بإمكانه تحويل أي موضوع يبتدئ في الحديث عنه او يستمع من آخر الى طرف منه الى حديث مسلٍّ ومفيد، ومما اذكره عنه انه لم يكن يرى انه يوجد حديث تافه وآخر جاد وان أي حديث لديه يمكن ان يكون محورًا عالميًا للنقاش، وقد ردد اكثر من مرة ان النكتة التي قد تمر عابرة على البعض كثيرًا ما استوقفت فلاسفةً وكتابًا فحطوا رحالهم عندها امثال الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون فكتبوا عنها أروع الدراسات اللافتة واكثر الكلام عمقًا.
تميّز طه كما ذكرت بالعديد من الصفات الحميدة وكان مبدعًا خلّاقًا تنساب حباحب الابداع على لسانه بفتنة وسحر، فكان يُدهش مجالسيه بأفكارهِ المفاجئة لا سيما فيما يتعلّق بالجمال ومعاييره لدى الناس، ومما اذكره بهذا الصدد انه كان يرى في جسد الراقصة سامية جمال نوعًا من التبتل ويرى في صوت عبد الباسط عبد الصمد نوعًا فاتنًا من الجمال!!
فيما يتعلّق بالقصة كان طه مبهورًا بالإرث الادبي لكل من الكاتبين الامريكيين ذائعي الصيت جون شتاينبك لا سيما روايته" شارع السردين المعلّب"، وارنست همنغواي في روايته "الشيخ والبحر"، وكان محبًا عاشقًا لكل من الكتاب الأمريكي وليم فولكنر في قصته القصيرة " وردة لعيني اميلي" والروسي انطون تشيخوف في قصته " عنبر 6" والفرنسي جي دي موباسان في قصته" القلادة"، اما في مجال الشعر فقد كان معجبًا بما خلّفه المتنبي وابو العلاء المعري وبأقوال متفرقة من كتاب "المفضليات" للمفضل الضبي. وكان طه مفتونًا بما كتبه الشاعر السوري محمد الماغوط في مجال قصيدة النثر، خاصة في مجموعته " غرفة بملايين الجدران"، ولعلّ هذه مناسبة ملائمة لإجراء دراسة مقارنة بين ما تركه الماغوط في مجال قصيدة النثر وما خلّفه طه في مجال القصيدة ذاتها.
اما في مجال الفن التشكيلي فقد كان طه من متذوقيه وعشاقه واذكر هنا انه كان مفتونًا بمعزاةٍ رسمها الفنان مارك شاجال.. وكثيرًا ما كان يردد انها تشبه تلك المعزاة التي طالما رآها تتجول في قريته صفورية.. قبل عام النكبة.. في الواقع وبعده.. في مخيلته.
كان طه مثقفًا عصاميًا تمكّن من دراسة اللغة العربية وآدابها على نفسه، كما تمكّن من اتقان اللغة الانجليزية اتقانًا تامًا، وكثيرًا ما كان يفاخر انه قرأ الشاعرين الانجليزيين المبدعين كولردج وشيلي بلغتهما الأصلية.
رحم الله طه كان صفحةً ناصعةَ البياض في حياتنا.. وانا متأكد انها ستزداد نصاعة كلما مضى الوقت.
 

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com 

مقالات متعلقة

.