وفاء عبد الرزاق شاعرة وقاصة وروائية عراقية مسكونة بعشق وطنها العراقي حد السكين، مصابة بالقلق، وما يقلقها همها الانساني والوطني ويشدها حتى الألم، ولقصيدتها مذاق خاص كطعم رطب نخبل بلاد الرافدين.
وفاء عبد الرزاق تغمس يراعها بجراحات القلب، الذي تستمد منه مداد الحروف لنصها، دافعها هو الاحساس والشعور والعاطفة الجياشة والرومانسية الحالمة والواقع المر والوجع الانساني والهم العراقي.
الشعر لديها هو مشاعرها المتفجرة من أعماقها وأحاسيسها المختلفة، من حزن وشجن وأسى وفرح وهموم وحب وآهات وزفرات وجراحات وأحلام وآمال وخيبات وخيالات وأفكار، وفي كل الأحوال تحاكي وجدانها، فترسم حروفها وكلماتها بألوان زاهية متنوعة في لوحة فنية ابداعية جميلة، فيها من الصدق والشفافية والعفوية والنعومة ، مستمدة مادتها من مخيلتها ومعاناة شعبها ووطنها الذبيح الجريح، الذي يئن تحت نيران الطائفية البغيضة.
وفاء عبد الرزاق من الأصوات الشعرية العراقية الجميلة النقية العذبة، التي ابحرت في رحلة الابداع والتألق، وهي من مواليد البصرة العام 1952، تركت العراق وتعيش غربتها في مدينة الضباب لندن، وهي رئيس ومؤسس رابطة الابداع من أجل السلام ومقرها لندن، وسفيرة النوايا الحسنة في الشرق الاوسط، ونائب رئيس البيت الثقافي العربي في الهند.
بدأت وفاء قرض الشعر منذ صغرها وفي سن التاسعة من عمرها تحديداً، حيث نشأت بين أحضان وكنف أسرة تهوى الأدب وتكتب الشعر الفصيح والعامي، وهي تكتب كي تتنفس وتحس أن الحياة بدون نبض وبوح وتعبير وتدوين ليست بحياة تكتب لتسافر داخلها وتتغلغل الى وجدان وأعماق غيرها. الشعر يلازمها طوال الوقت ولا تعتقد أنه سيغادرها حتى الموت، ويتجلى الشعر ايضاً في كل حالاتها التعبيرية في قصصها ورواياتها.
عملت وفاء واشتغلت على تطوير ملكتها الشعرية وادواتها الفنية ومضامينها الفكرية، وكونت لنفسها ذاتاً شعرية متجددة متفردة في لغتها واسلوبها، وفرضت حضورها الساطع المشع وذاتها الشعرية بجدارة وتميز رائعين من خلال نصوصها الابداعية التي تختلف الى حد كبير عن مجايليها، بصورها وتعابيرها وموسيقاها واستعاراتها واوصافها وتشبيهاتها ولغتها الرقراقة الصافية كينابيع الماء المتدفقة.
نشرت وفاء عبد الرزاق كتاباتها وتجاربها الشعرية في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية والمواقع الالكترونية، وشاركت في العديد من المهرجانات الشعرية والأمسيات الثقافية عربياً وعالمياً، ابرزها مهرجان السلام العالمي للشعر في فرنسا.
وهي غزيرة الكتابة والانتاج في مجالات الشعر والقصة والرواية، ولها عشرات الاعمال في هذه المضامير، ومن أبرز مجاميعها الشعرية :" هذا المساء لا يعرفني، حين يكون المفتاح اعمى، للمرايا شمس مبلولة الاهداب، نافذة فلتت من جدران البيت، امنحني نفسي والخارطة، البيت يمشي حافياً، ادخل جسدي ادخلكم، مدخل الى الضوء، من مذكرات طفل الحرب " وغير ذلك.
تضم دواوين غادة عبد الرزاق قصائد عديدة، متنوعة في موضوعاتها وموتيفاتها الوطنية والعاطفية الوجدانية والحزينة والعامة، وهي نبضات وهمسات حب لعراق الرافدين ودجلة والفرات، ودفقات وجودية وإنسانية بامتياز، ذات هاجس لا ينقطع عن المحاولة الدائمة للفراق من أسر الجملة التعبيرية، وتحاكي في اندفعاتها المتتالية ذاك اللهيب الغاضب المستعر في حنايا أنفاسها وادراكاتها غير المنجزة، وكذلك ايماءات شعرية تتناسب وحضورها الألق المتوهج مع ما يمر به وطنها العراقي من أزمات ومحن، فتضيف الى ذائقتنا براحاً شعرياً واسعاً رهيفاً لا ينتهي أثره، ونجد عالمًا شفافًا من الصدق والرقة والاحساس، اجتمعت لصاحبته الشاعرية والمعرفة وحرارة الانفعال وصدق التجربة والشعور، وكلماتها نبضات موحية، ومقطوعاتها الشعرية فيها مواقف شفافة راقية، ومشاعر رقيقة سامية. وتأتي قصائدها فطرية تشبه نوعاً من الاحلام التي تحمل في طياتها حياة إنسانية.
وفاء عبد الرزاق شاعرة تصدح كالبلبل الذي يجيد غناءه، ولا يعرف حدودًا ببن الامكنة ولا تتقيد بزمن، وتعتمد على الخيال المجنح لبناء صور فنية بعيدة عن التقريرية والمباشرة لتوليد رؤيتها للوجود بمعنى انها تضع الشعر في قصيدة النثر.
ويجب الاعتراف أن وفاء عبد الرزاق مجددة بعيدة عن التقليد، تحافظ على وحدة القصيدة، وعلى النهج الأدبي الصحيح، يضاف الى ذلك عمق بالتفكير ورهافة بالحس والمشاعر، ونابعية قوية تهدر وتتدفق كالسيل العارم المندفع، وهي شاعرة انسانية في شعرها تستمده من جوهر الحياة، وجمال طبيعة العراق ووحي القيم والمثل العليا، ما تقوله وتستخرجه بقطع شعرية المعاني الرائعة المفيدة للحياة.
وتكشف قصائد وفاء عبد الرزاق بوضوح من النظرة الاولى كيف أنها تملك ناصية اللغة الشعرية، وكيف تصوغ شعرية في الفاظ نقية حلوة صافية تعنى باختيارها اشد العناية، ويتضح لنا عنصر آخر في فنها الشعري، وهذا العنصر هو جمال الموسيقى الشعرية عندها، فموسيقاها أنيقة كأناقتها، مطربة، وليس موسيقى غائمة غامضة.
وكلّ من يلج عالم وفاء عبد الرزاق يستشف الجمال اللغوي والمعرفي والتصويري ، ويتجلى امامه معزوفات شعرية كاملة متكاملة تقودها وفاء بحرفية قائد الاوركسترا، وقصيدتها بمثابة غوص في لجة وبحر الشعر والالهام والابداع لتبليغ هدفها ومغزاها ومعناها ومقاصد الشاعرة الانسانية وتعزيز الاصول اللغوية وجعلها جسرًا يمتد بين الماضي والمستقبل ،حتى ترتقي الى مستوى الوحي وتقديس الكلمة .. لنسمعها تقول في قصيدة " الحزن الجميل " :
الحزنُ الجميل..
الموتُ على الشرفةِ غابةٌ
وقحطُ أفئدة
يا رائحةَ الكنائسِ ورأفةَ الشموع..
القلوبُ معلـّـقةٌ برياح الحُزن
تطردُ الأذى الصمغ
فانظري لتلك المرأةِ
التي أوقدتْ قلبَها للدعاء.
أيها الإله الغافي على نشيدِ الأعمدة
سرقوكَ منكَ
وباسم المنشار الأعمى
حَصدوا الرقاب.
أيها الإلهُ المتوَّجُ بوهمِنا
أنرْ قلبَك
إلى التي بكى نهرُها
في راحتيكَ واهتز مثرثرًا:
سلامٌ سلامٌ
سلامٌ سلام.
أيتها السكينةُ الراجفةُ
أيها الضوءُ المترددُ في الهُطول
هبْها عابرًا
يجمعُ تيهَها ويأتي
بالمسك
القارورةُ سلامٌ
والعطرُ غيبتهُ الرذائلُ
أتأتي حقاً
إلى مَن قاد الرمادُ عطرَها لهيبتـِك؟
كانت فجرًا يُطلق موعدَهُ ويتعثر.
الشارعُ حسينيّ الصوت
أنساها حُسنَها في قارعاتِ الطبول
واستطالت الأفضيةُ السود.
أيها الإلهُ المذهَّبُ بالنور
الدهرُ عقربٌ
والأشبارُ لا تقترب
خذ يقظةَ المجانين
وعبئ الأشجارَ بشهيقِ الروح
كي لا تسقطَ العصافير.
لنخدع لغةَ جُرحٍ مفتوح
الأطفالُ يحومون حول الحُلُمِ
والمستنقعاتُ تهندسُ براحتِها الأيامَ
وتُغطسُ الصرخةَ بالأوحال.
أيها الإلهُ العاشقُ للتأويل
ترفَّق بأصابعِ الأطفال
دعها ترسمُ بهجةَ خُطواتِهم
فبيتُهم القصبي يرطنُ:
حسين
يا حسين
يا...
يا ..
المتشابكُ بالدعاء
أورثتنا الهدايا كهفـَها
وأضحيةَ التركات
يحقُ للطفلةِ أن تتنفسَ
فلماذا يكبـِّلـُها الهواء؟
أوقدتُ لها ماءَ المرايا
وللدوالي آنيةً من فضة.
أدرْ القدحَ
ثمة عطبٌ في الرأس
والرئةِ النافذة،
ثمةَ مَن يقيسُ الكارثةَ بالصوت
ثمةَ أطفالٌ للدهشة
وثمة من أعطى لنفسِهِ حقَ خنق الزهر
أيها الإلهُ الجميل
كيف ترضى أن يلبسَ وجهَك القبحُ
ويدنسَ ربوبيتـَك؟
يا ربَّ الدمعةِ والنـُطفة
الرمادُ خطوتـُنا الممزقة
والحلُمُ فضيحةُ الخرائطِ
الأجسادُ التي تطايرت
لها أجنحةُ الموج
وبهاءُ الزرقة..
أرني ساعتـَك
فقد عطب لقلب
ولا يصلحُ للنبض.
أيها الإلهُ البهيّ
أطالَ الشيطانُ لحيتـَهُ
وشربَ الأدعيةَ
فأسكنِّي قلبَك
ليس لي إقامةٌ في اللغةِ اللغز
أيها العرشُ الجليل
أمِنَ المصادفةِ ألاَّ يأتي نبيُّ المرحلة؟
ها قد تجمَّر النسيمُ، السكونُ اتـَّقد
وحان وقت الصَّاعقة.
وهذه القصيدة تعتمد على مجموعة من الظواهر الاسلوبية الفنية، وثمة قصائد اخرى تقوم على البناء اللغوي والهندسي الدقيق للإيقاع وكثافة الدلالات من خلال صور رومانسية منتزعة من الواقع.
تمتاز وفاء عبد الرزاق بالجهد والاتقان للأثر الفني، تشغل فكرها وتتبع جزيئات الموضوع، فلا تترك منه شيئاً يساعدها على ذلك سوى فطرتها الملهمة وطبعها الشعري الأصيل، وميلها الآسر للتحرر والانطلاق وثقافتها الواسعة الشمولية التي استوعبت وهضمت أنواعاً كثيرة، وهي بالوصف والتصوير بنوع خاص رائعة مبدعة تحاكي العراق ونخيله.
ومن يتأمل ويعيش في أجواء قصيدتها يخرج منها بإحساس واضح انه يعيش في عالم من الموسيقى، وهي موسيقى لها قوتها وسيطرتها على الوجدان ووقعها على الأذن، وهاتان الميزتان، ميزة التعبير الشعري الصافي، وميزة الموسيقى الواضحة الجميلة هما اثمن ما في قصيدة وفاء من مميزات فنية، وهما الميزتان القادرتان على أن تربط المتلقي من الاطلالة الاولى بشاعرتنا الجميلة الفاتنة المبدعة المدهشة الساطعة المضيئة.
وفاء عبد الرزاق تحس بغبن العشق، وهي جريئة في تعبيراتها واختيار اللغة والكلمات المعبرة لحالاتها، تتمرد وتثور، تصرخ وتغني، فتأتي قصائدها حارقة انفعالية وجدانية ثورية، وتتصف قصيدتها بعذوبة النقاء والطهارة.
أخيرً، تحية من ثرى فلسطين الى شاعرة الجمال والصفاء والاحساس، الصديقة ابنة البصرة العراقية وفاء عبد الرزاق، ومزيداً من الرقي والازدهار والاشعاع الشاعري، والسؤال: هل تعود شاعرتنا الخصبة الى عراقها حين يعود كما كان في مراهقتها ..؟؟!