الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 10 / نوفمبر 04:02

من ذكريات الصحافة.. ثلاثة نجوم شقت طريقها في الظلام

بقلم: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 23/11/20 13:05,  حُتلن: 14:51


كان ذلك في اواسط الثمانينيات عندما افتتح الاخوة في "حركة ابناء البلد" صحيفة "الراية" وبعدها "الميدان"، في الناصرة، ليوصلوا رسالتهم الوطنية النابعة من اعماق القلوب والارواح، وشكلوا طاقما حرصوا على ان يكون مهنيا إلى اقصى ما يمكن لإصدار صحافة تؤدي دورها على اتم وجوهه، وكنت واحدا من ذلك الطاقم واوكلت الي ادارة التحرير دور المحرر الادبي



في تلك الايام تدفّق علينا في صحيفة الراية وبعدها الميدان، سيلٌ من المثقفين السياسيين والادبيين وقد تعرّفت على العديدين منهم، وما زالت تربطني ببعض منهم علاقات مودّة ومحبة حتى هذه الايام، وقد تعدّدت اهداف اولئك المتدفقين، فمنهم من يريد ان يقدّم الخدمة الاجتماعية ومنهم من يريد ان يقدّم الخدمة الوطنية الخالصة، ومنهم يريد ان يقدم عطاءه الادبي في مجال اهتمامه الشعري او السردي، وقد برز من بين هؤلاء ثلاثة من الاخوة الذين ترددوا على صحيفة الميدان تحديدًا بكثافة تكاد تكون يومية، وكانوا يفدون الينا مستقلّين الباص من وادي عارة، قرية مصمص ومدينة ام الفحم تحديدا، ليقدموا اسهامات في تقدّم تلك الصحيفة ورفعة شأإنها، وهؤلاء هم: عادل اغبارية، احمد ابو حسين وعبد الحكيم مفيد اغبارية، الاول قيل لي انه توفي مبكّرًا، ولم يُكمل المسيرة، والثاني انضم الى التجمع الوطني الديموقراطي الذي شكّل ابناء البلد، في بداياته الاولى، عمودَه الفقري، وقد احتل مكانة رفيعة فيه الى ان اغتالته يد المنون وهي لمّا يزل غضًا طريًا في ميعة شبابه

الثالث انضم في فترة تالية الى الحركة الاسلامية الشق الشمالي الذي وضعته السلطات الاسرائيلية خارج القانون، وقد تسنّم مراكز اعلامية وسياسية لافتة حتى وفاته في مثل هذه الايام قبل ثلاث سنوات(20‏/11‏/2017)


لقد شق كل من هؤلاء المرحومين الثلاثة طريقه حافرًا صخورَ الحياةِ بأظفارٍ صُلبةٍ وارادةٍ لا تلين لها قناة، وكنت انظر اليهم كزملاء واصدقاء بكثير من الاهتمام والاكبار، كونهم جاؤوا شبه خالي الوفاض من المعرفة والمهنية، وكان ما يلفتني اليهم تلك الرغبة الهائلة في العمل الاعلامي

وهناك العديد من المواقف التي ما زلت اختزنها في ذاكرتي، وهل امتلك سوى اختزانها؟

عن هؤلاء، فقد كان كلٌ منهم يتّصف بنوع ما من التوجه الينا في الصحيفة، ففي حين كان احمد ابو حسين كثير الصمت كثير التفكير والتريّث، كان عبد الحكيم صاخبًا عالي الصوت عميقَ النظرات، وبين الاثنين وقف عادل مرتبكًا حائرًا ومتريثًا



مما اذكره بكثير من المحبة والحنين إلى تلك الايام التي انطبق عليها ما قاله ابو العلاء المعري وهو:" رُبّ يومٍ بكيتُ منه ولما صِرتُ في غيرهِ بكيتُ عليه"، ان اولئك الاخوة الثلاثة، كثيرًا ما كانوا ينتظرون اشارة من رئيس تحرير الصحيفة الصديق العزيز عوض عبد الفتاح، للانطلاق في الاعداد لتحقيق صحفي، غير عابئين بما يتكبدونه من مصاعب وخسائر، وقد لا ابالغ اذا ما قلت انني كنت اشعر ان ما كنت اعتبره خسارة كانوا يعتبرونه ربحًا صافيًا، وكان كلٌ منهم عندما يعود وبيده تقريره الصحفي، المس ما يرافقه من حيرة، فهل سيوافق رئيس التحرير على التقرير؟ ام سيرفضه، اما رئيس التحرير فقد كان يتعامل بمهنية، فاذا اعجبه ما يُقدّم اليه، وقلّما اعجبه للحقيقة، فانه ينشره بعد اعمال قلمه فيه حذفًا وزيادةً، واذا لم يعجبه قام بوضعه جانبًا، حتى اذا ما غادر صاحبُ التقرير، القى بتقريره في سلة المهملات وهو يقول: هذه الكتابة لا تليق

اريد صحافةً مهنية

وكان رئيس التحرير قد جاء من العمل في الصحافة الانجليزية وخبر اسرار مهنة المتاعب، وادرك ابعادها ومتاهاتها



الان وقد مضت تلك السنوات، ومضى معها من اتحدث عنهم من عالمنا الى عالمهم الاخر، اسجل ملاحظتين اراهما غايةً في الاهمية، هما:
*ان اولئك الاخوة المتدرّبين، لاقوا الكثير من العنت والمعاناة ابان تلك الفترة، ويعود هذا كما هو واضح، الى انهم وفدوا للعمل في الصحافة من باب الهواية الذي لا يستهان به في جميع المجالات، ولو انهم درسوا الصحافة وتعلّموا اساليب عملها لما عانوا تلك المعاناة، وقد يكون ما اقوله هنا قاعدة في الحياة والنجاح، صحيح ان الهواية هي الدافع والمُنطلق لكل عمل نقوم به ونبغي الانجاز الحقيقي فيه، غير ان الدراسة تعزّز الموهبة، واعتقد من هذا المنطلق ان الموهبة وحدها لا تكفي وتحتاج للدراسة الى جانبها لنتمكن من تقديمها على اكمل وجه



*ان اولئك الاخوة الثلاثة، باستثناء عادل الذي اختفت آثاره منذ سنوات، تمكّنوا كلٌ على حدةٍ ووفق قدراته، ان يتسنّموا اماكنهم في الحياة فقد تمكن احمد ابو حسين من ان يكون رجلًا مؤثرًا في التجمع الوطني الديموقراطي، وقد رحل قبل سنوات شابًا يانع الخُضرةَ والعطاء، مما ترك اثرًا محزنًا مؤسفًا لدى كل من عرفه وخبر مزاياه الرائعة، اما عبد الحكيم فقد انطلق بعد تلكم الفترة الاولى في حياته مثلَ صاروخٍ مُوجّه، فتألق في حياته العملية، فمن هذا الموقع الهام الى ذاك، ومن هذا العمل إلى غيره، يتنقّل بخفةِ غزالٍ مدرك لكل ما حوله، وقد جمعني به اكثر من عمل وموقف، ففي مركز يافا للأبحاث اجتمعنا معا في تحرير مجلة المركز، بالتعاون مع ادارة المركز، وفي النشاطات الثقافية الاجتماعية التقينا في اكثر من محاضرة ولقاء، بعدها كنت اتابع عبد الحكيم عن بعد، فهو يكتب وينشر في هذه الصحيفة او تلك، الى ان تسنّم موقعًا مرموقًا في صحيفة "صوت الحق والحرية"

لقد احرز عبد الحكيم في حياته القصيرة نسبية الكثير من الانجازات، فقد وضع العشرات واكاد اقول المئات من المقالات التي دلّت على انه عرف اخيرًا طريقه، وبرع فيه

لقد رحل هؤلاء الاخوة الثلاثة عن عالمنا بعد ان رافقناهم في خطواتهم الاولى، وبعد ان تألقوا في سماء حياتنا الاعلامية، مثل نجوم قادرة على الاشعاع

حتى بعد رحيلها

مقالات متعلقة

.