سيكون المترجم سامر أبو هوّاش معروفاً هذه المرّة، بل ومحظوظاً، ولو عربيّاً على الأقلّ، وقد سبق له ترجمة بعض أشعار الشاعرة الأمريكية لويز غليك. سيُنسى أمر سامر الشاعر، ويصبح مترجماً لعبت معه الصدفة؛ ليترافق اسمه مع شاعرة نوبل للعام الحالي 2020 لويز غليك. ربما هذه هي الحالة الأولى التي سيكون للمترجم حضور مواز للشاعر الفائز.
يقترح المترجم لفظ اسم الشاعرة "غليك" وليس "غلوك"، في مقدمته لكتاب "عجلة مشتعلة تمرّ فوقنا"، والصادرة في 173 صفحة عام 2009 عن داري نشر هما "الكلمة" في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومنشورات الجمل في ألمانيا. هل ينبئ هذا الاقتراح عن سلطة ما تجاه اسم الشاعرة يمارسها المترجم؟
وتجاوزاً عن هذه النقطة ستُعرف الشاعرة في الإعلام الثقافيّ العربيّ بـ "غليك"، وقليلا "غلوك" أو "جلوك" أو "جليك"، هل أُسقط في يد المترجم ولم يفلح في بسط سيطرته المعرفية على الإعلام ليفرض صيغته الوحيدة التي يعترف بها "غليك" وليس "جلوك" أو "غلوك". لن أدخل في التحليل الصوتيّ للاسم فلهذا أساتذته، مكتفياً بهذا فيما يخصّ الاسم.
ترجم أبو هوّاش عدّة نصوص اختارها من عدّة مجموعات للشاعرة، واختار جملة شعريّة من أحد نصوص الشاعرة لتكون عنواناً للمجموعة، والكتاب متاح إلكترونيّاً لمن أراد أن يقرأه ويتعرّف على فائزة نوبل بلغة "أبو هوّاش" واقتراحه اللغويّ. ولكنّي هنا أقدّم ملاحظاتي حول تلقّي الشاعر والمثقّف العربيّين لهذا الخبر.
يعتقد المثقّف العربيّ أنّ هذا الاختيار كان صادماً أو عجيباً أو غريباً، أو أنّ الشاعرة لا تستحقّ هذا الفوز، لعلّ هؤلاء لم يعرفوا الشاعرة من قبل ولم يقرؤوا لها، بل ربّما لم يلتفت أحد لمختارات سامر أبو هوّاش الشعريّة إلّا بعد الفوز. وهذه المسألة ليست مشكلة لجنة منح الجائزة في الأكاديميّة السويديّة، ولا مشكلة الشاعرة نفسها، ليقوم المثقّف العربيّ الغارق في الأنانيّة بتقويم عمل لجنة منح جائزة نوبل للآداب. هذا حدث أيضاً عندما تندّر المثقّف العربيّ على اختيار "بوب ديلان" لهذا الفرع من الجائزة قبل سنوات، بل اعتبر المثقّف العربيّ هذا الفوز خارج حدود الأدب، فكيف لمغنٍّ أن يفوز بجائزة أدبيّة؟ ونسي هذا المثقّف أنّ "بوب ديلان" شاعر كذلك يكتب لنفسه أغانيه. أو لعلّه لم يكن يعرف ذلك. لكنْ، هل من قيمة مضافة لعدم معرفته؟
إنّ هذا المثقّف الأنانيّ جدّاً سيجد أنّه من غير الملائم أن يفوز فلان أو علّان من الشعراء العرب حتّى، وستجد من يتّهم الشاعر الفائز بتهم شتّى كما اتّهموا، وما زالوا يتهمون نجيب محفوظ؛ أنّه لم يعط الجائزة لولا تعاطفه مع (إسرائيل)؛ بمعنى أنّ من يفوز سيكون متّهما دائماً، مهما كان جنسه، ومهما كان موطنه، وسيجد له المثقّف العربيّ مثلبة سياسيّة ما تجعله غير مستحقّ لهذا الفوز، وهذا ما حدث، فقد اقترح فيسبوكيّون كثيرون الشاعر السوريّ أدونيس بدلاً عن "غليك"، أو الشاعر الروماني "ميرتشا كارتاريسكو"، وربّما تطوّع آخرون لاقتراح أسماء غير هذين الشاعرين حسب أمزجة المثقّفين العرب الذين يتقنون توزيع الأوسمة، ليس محليّاً وعربيّاً فقط، بل دوليّاً أيضاً. فهو لم يرضَ عن نتائج جوائز البوكر وكتارا العربيّتين، فهل سيرضى عن نوبل؟
المثقّف العربيّ مأزوم، بل هو مسكين في الغالب، يعتقد أنّه مستهدف شخصيّاً في كلّ جائزة، وهناك قرار دوليّ حاسم بإخراجه من حلبة المنافسة على هذه الجائزة (نوبل للآداب)، لذلك فإنّه يرى، وكلّه أسف، أنّ الجائزة تذهب لغير مستحقّيها، لأنّه هو وحده من يستحقّها، أو على الأقلّ يجب على لجنة الجائزة في الأكاديميّة السويديّة أن تستشيره وتطلب رضاه. ولن تعلن النتائج قبل أن يكون راضياً مرتاح البال والضمير. وإلّا ستكون اقترفت ذنباً بل خطيئة في حقّ الإنسانيّة جمعاء.
أمّا أكثر المثقّفين بلادة أولئك الذين يقولون إنّ نوبل قد فقدت بريقها أو كادت، لا معنى لذلك أصلاً، لأنّ هذا الفريق لا يمتلك أداة قياس للبريق حتّى يرى أنّ بريق الجوائز قد اختفى أو كاد، إنّه يرقص على حلبة ليس فيها متفرّجون سوى ظلّه.
على المثقّف العربيّ أن يغيّر من إستراتيجيّات التعامل مع ذاته أوّلاً، قبل أن يغيّر إستراتيجيّاته في التعامل مع غيره، فلا يصحّ مثلاً أن يقول ما قال عن فائزي نوبل وهو خارج سياق الكون كلّه، عليه أن يكون فاعلاً، قادراً ومقتدراً، ويغيّر القواعد كلّها ليكون بإمكان الكون أن يلتفت إليه ويطوف حول كعبته. أمّا وهو ينتظر أن تعطيه الأكاديميّة السويديّة جائزة بحجم نوبل وهو لا يكفّ عن إسالة اللعاب كطفل؛ فهذا من أكبر كبائر هذا "المثقّف المنفلش" الذي لا يعرف أدباً ولا شعراً ولا نثراً، ولا يتقن سوى صناعة الإشاعات وتحطيم المعنويّات. ويقف للشعراء والأدباء بالمرصاد إن حقّقوا نجاحاً أو فوزاً.
علينا جميعاً أن نبارك فوز الشاعرة "لويز غليك" بجائزة نوبل، ونُقبل على قراءة أشعارها وتذوّق قصائدها جماليّاً، ونبني على ما أسّسته هي وغيرها من الشعراء العظام، فكلّ الكتّاب والشعراء على امتداد هذا العالم هم إخوتنا وأصدقاؤنا، بل إنّ فوز شاعر بنوبل بعد طغيان سيل السرد الروائيّ المجنون لهو في مصلحة الشعر بعامّة، ويعيد للشعر ألقه والاهتمام به، عدا أنّ جائزة نوبل لهذا العام لها أهمّيّة مميّزة عندي؛ فالفائز شاعرة وليس شاعراً، وفي هذا ضعضعة لذكوريّة الشعر، هذه الذكوريّة كما يقول "جايمس فنتن" في كتابه "قوة الشعر"، هي السبب في تأخر ركب الشاعرات عن الشعراء الرجال، وبسببها سيطر الشاعر الرجل على الشعر كما يقول عبد الله الغذّامي. لقد أثبت هذا الفوز أنّه لا جنسانيّة للشعر، والشعر هو الشعر بغض النظر عن مبدعه شاعراً أو شاعرة. لقد قيل حول هذه المسألة الكثير من النقد والفلسفة، أقصد "المرأة والشعر"، وكتب فيها نقّاد كثيرون، وتوقفتُ عندها متأمّلاً في فصل كامل من كتاب "بلاغة الصنعة الشعريّة".
لقد جاءت نوبل لهذا العام وقالت كلمتها الرائعة أيضاً في حقّ المرأة الشاعرة، من خلال "لويز غليك" التي وصفت بأنّها "أميرة الشعر الأمريكيّ". إنّ الإشارة إلى هذه النقطة ليس تحويل المسألة الثقافية الشعريّة إلى مسألة نسويّة، وإنّما هو تذكير لذلك النقاش المحتدم بهذا الخصوص.
هنيئاً للشاعرة "لويز غليك"، وهنيئا للمترجم سامر أبو هوّاش هذا الحضور الموازي في كرنفال نوبل الأدبيّ لعام يوصف بأنّه عالم الكوارث، وخاصّة الصحية، ففيروس "كورونا" ما زال نشطاً وتتصدّر أرقام ضحاياه العقول الثقافية والسياسية على حدّ سواء.