حينما كنتُ طفلاً كان أهل قريتي لا يقرؤون ولا يكتبون، وعندما شختُ صاروا – اسم الله ما شاء الله وخمسة في عين الحسود – يقرؤون المكتوب على الجدران.
حينما كنتُ طفلاً كنتُ أمرح وأرتع على هضاب قريتي وأشرب من عيون المياه، من العين الشّماليّة وعين الغبّاط وعين الزّزروق وغيرهنّ، وعندما شختُ سرتُ على الهضاب والأشواك باحثاً عن طفولتي فوجدتُ العيون غاض ماؤها فاستغثتُ مثل جدّي البدويّ: الماء الماء. وضاع صراخي في الصّحراء.
حينما كنتُ طفلاً حلمتُ بأن أكون كاتباً يكتب قصصاً للأطفال مثل "ليلى الحمراء" ويكتب سِيَراً للكبار مثل "سيرة بني هلال" وعندما شختُ لوّعني الحنين إلى أيّام كنتُ ألعب فيها بالبنانير مع أترابي على البيدر القبليّ. خذوا قصص الأطفال التي كتبتها وأعيدوا لي بنانيري.
حينما كنتُ طفلاً وقفتُ على قارعة الطّريق أنتظر القادم العائد الذي بلا اسم يحملُ لي الملبّس وقصب السّكّر واليوسف أفندي وعندما شختُ أسميته غودو وما زلتُ أنتظر قدومه وهداياه.
حينما كنتُ طفلاً كنت أمتطي حمارنا البنيّ وأسافر إلى الحقل أو إلى المقثاة أو إلى المدينة وعندما شختُ اصطحبتُ حفيدي الصّغير ليشاهد الحمار في حديقة الحيوانات في المدينة ولمّا رويتُ له كيف كنتُ أمتطي الحمار وأنتقل من مكان إلى مكان سألني: هل تكتب قصّة خياليّة جديدة يا جدّي؟
حينما كنتُ طفلاً كنتُ في مطلع الصّيف أذهب إلى الحقول وأشاهد الحصّادين يحملون المناجل ويحصدون سنابل القمح ويغنّون "منجلا يا منجلا، راح للصّايغ جلا، ما جلا إلا بعلبه، ريت هالعلبه عزاه، نطبخها ليلة عشاه" وكنتُ أشاهد الغمر والرّمّة والحلّة ثمّ النّورج والشّاعوب والمذراة والقمح والتّبنة والقصليّة والعواذر، وعندما شختُ صارت هذه الكلمات مثل كلمات بيت الشّنفرى في "لامية العرب" الذي يقول فيه: "سيدٌ عملّسٌ، أرقط زهلولٌ، عرفاء جَيْألُ".
حينما كنتُ طفلاً كنّا نغنّي "يا ظريف الطّول" و "عَ الرّوزنة" و "عَ اليادي" و "عَ اللومة" وحينما كبرنا عشنا وشفنا وسمعنا: "العتبة قزاز" و "كعكة بعجوة" و "تيرشرش دق ألماني" و "بحبك يا حمار"..!
حينما كنتُ فتى كتبتُ في دفتر مذكّراتي: حبيبتي جميلة الجميلات، عيناها مثل زيتون الجليل، وشعرها مزينٌ بزهر القندول، وجسدها معطّر بعبير الليمون، وفستانها من نوّار اللوز، وعندما صرتُ رجلاً أضفتُ على الصّفحة نفسها: جلست جميلة الجميلات على جمر السّنديان تنتظرني فباغتها فارس مغوليّ وخطفها، يا ويلتي دماياها حماياها. وعندما شختُ كتبتُ على الصّفحة ذاتها: "وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي" ثمّ أضفتُ: يا ليل، يا ليل، يا ليل. وردّدتُ ما كتبته فسمعني حفيدي فقال لي: اصحَ! اصحَ! ها هي تباشير الفجر يا جدّاه!! .
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com