أولاً) أنا لا أريد أن يتفلسف الكاتب المتشائم فيسخر من المتفائل، زمني الرقمي لا يحتمل هذا النوع من الكتابة الثقيلة الدم، ولا أريد أن يطاردني زكريا تامر بأسلوبه في الكتابة عن أسلوب غيره في الحياة، أنا لا أريد حتمًا أن أقرأ أدبًا يقول عن نفسه ساخرًا لعبرة كما هو عليه في رواية "الرائحة" لصنع الله إبراهيم، أو أدبًا في المسرح الفلسطيني يحاول إضحاكي تحت الاحتلال، فيدقدق الاحتلال، ولا يخردقه بالضحك على الرغم من محنتي بالاحتلال، أنا بصراحة أريد أن يحتلني الضحك، فلا يكون للسخرية شيء آخر غير دافع الفكاهة حتى البكاء، وهذا هو ما يصير معي عندما أقرأ قصص الملحمة الساخرة التي طبعها في كتاب نبيل عودة عن المدعو "هواش"، شخصية لا يخفي عنا الكاتب لها احتقاره الساخر، فيطور الجاحظ في "البخلاء" وموليير في "المريض الخيالي"، ويقفل باب الموروث الشعبي العربي في هذا الميدان ليؤسس لموروثه.
ثانيًا) كيلا يتفادى التهمة بما يلقيه أصحاب الخلق "النظيف" على ما لا يمكنهم لومه، يبني نبيل عودة نصًا عاليًا في أسلوبه، فهو يحاكي أسلوب أدب الرحالة العرب، ويتقمص شخصية الراوي الكلي العلم الكلي الوجود، فيحذق في رسم شخصية محمد أبو هزاع هواش "مكتشف البلدان الشهير عن رحلته البحثية ليبحث في مسائل بلاد الله الواسعة، ويرى ما يكون بشأنها في القادم من الأيام، وهي بلاد من المفروض أن لا يسكنها إلا الورعين الطائعين المصادقين أمثاله". هناك بنية الإطناب، فالنص كله يثني على خصائصه، لوظيفة سردية غايتها التفجير في التهكم يتبعه التفجير في الضحك.
ثالثًا) لا بد للتفجير الغائي من تفاصيل سردية عن الرحلة بالقدر ذاته عن الرحالة تحت حبكة من المبالغة دافعها القصدية وهاجسها العمدية انطلاقًا من جبال عُمان مرورًا بالصحراء حتى تونس الخضراء، وتعلو النبرة في المبالغة لحد التهويل الوصفي عندما يعتبر أبو هواش والألمعية من صحبه بحر تونس بركة كبيرة وموجها يحركه الشيطان والجان، وها هو "بعد تفكير عميق تفتق ذهنه عن أمر لمجموعته بعدم ملامسة المياه خوفًا من أن يتسرب الجان لأجسادهم، ويفسد ما اكتمل من خلقهم، وما استتب من عقلهم".
رابعًا) بنية التهويل في الوصف الساخر للرحالة وللرحلة لشد القارئ، إنها في الوقت نفسه بنية التشويق التي يُدخل الكاتب فيها عنصرًا جديدًا أحد شوارع تونس، وعلى غير عادة ما نسمع، اسمه "شارع ابن شرموطة". كل الموروث الساخر في الأدب العربي يتهاوى بأخلاقياته القضيبية وعِبراته الحبيبية (بالنسبة لإميل حبيبي)، فتكون اللمعة، وتكون الضحكة، ولكن أيضًا تكون التساؤلات.
خامسًا) يماطل نبيل عودة في بنية الكشف ليعمق من بُعد الاستمتاع عن طريق المنطوق، فالحرف الساخر يُنْطَق من فم الكلمة الجادة، لَمَّا يتكلم هواش ابن أبيه مع الحاكم عن غريب اسم الشارع، بعطفة لغوية من أروع ما يكون (أسمح لنفسي بهذا الحكم التقييمي فأنا مع نص ساخر ومع نص ساخر ليس كغيره) عند الحديث عن: "أشخاص تفوح منهم روائح الياسمين والليمون وزهر الأقحوان، فاستعاذ بالله متشائمًا من هذه الرائحة التي تليق بالحريم". يقتنع الحاكم بتبديل اسم الشارع بعد مشاورات على شرف الرحالة الذي قدم نفسه بهذه الكلمات: "محسوبك محمد أبو هواش، كاتب وباحث لا يشق له غبار في جامعات وكليات المعمورة بشرقها وغربها."
سادسًا) يتجاوز نبيل بنية السخرية إلى بنية الضحك فبنية القهقهة، بعدما تمضي الأيام، ويعود محمد أبو هزاع هواش إلى تونس على ظهر "بغل يطير"، ويسارع إلى "الشارع ذي الاسم المستهجن، لفحص ما آل اليه مطلبه الأخلاقي"، فيرى أنهم "لغبائهم" غيروا اسم الشارع لكنهم سجلوا الاسمين الجديد والقديم: "شارع محمد أبو هزاع هواش (ابن شرموطة سابقًا)"! الكلام بذيء جميل مذهل بجماله لأنه يجيء في مكانه من البنية العامة للسرد وفي زمانه من الساعة الخاصة بالسخرية.
* * * * * *
القصة: أبو هواش في تونس الخضراء - بقلم: نبيل عودة
يحدثنا تاريخ ادب الرحالة العرب عن مكتشف البلدان الشهير محمد أبو هزاع هواش عن رحلته البحثية ليبحث في مسائل بلاد الله الواسعة، ويرى ما يكون بشأنها في القادم من الأيام، وهي بلاد من المفروض ان لا يسكنها الا الورعين الطائعين المصادقين امثاله.
انطلقت قافلة مكتشف البلدان هواش من جبال عمان، تمخر عباب العمران والصحاري نحو بلاد الله الواسعة، وبعد مسيرة شهرين في حساب لوحة المسامير، التي كان يدق فيها عصر كل يوم مسمار جديد ليعرف عدد أيام الرحلة البحثية، أطل على بلد جميلة تشع بالنور والنوار، فاستطابت نفسه القلقة من طول الرحلة، واطمأن باله لنجاح المهمة البحثية، وسأل عن اسم المكان فقالوا بفخر: هذه تونس الخضراء، جميلة البلدان.
حط أبو هواش رحاله هو ودراويشه على شاطئ بركة، أكبر من بركة قريته التي ولد فيها والتي ترد الماشية للشرب منها، وهالهم اتساع حدودها، متأملين الاعجاز العلمي الذي لا سابق لهم فيه، بتجميع هذا القدر من المياه في بركة ترى بدايتها ولا ترى لها نهاية تغلقها، وأعجب ما فيها فتائل ليس من الهبر المحشو بالأرز، بل من الماء، تتدحرج على سطح المياه دون ان تغرق وتضرب الشاطئ بقوة، حيث تتحطم وتتناثر كأنها لم تكن.
سجل هذا الاعجاز الذي شهده بأم عينه، ووصل في تفكيره وبحثه الى سبب يبدو وجيها، سيطرحه على حكماء الدول، بأن هذه المياه التي تسرع على سطح البركة نحو الشاطئ قد تكون فعل من عمل الشيطان، او بعض الجان الذي سجنهم سيدنا سليمان، يحاولون الخروج من سجنهم الأبدي، لذلك تفور وتمور المياه بهذا العنف، دون قدرة على فك أسرهم. وبعد تفكير عميق تفتق ذهنه عن أمر لمجموعته بعدم ملامسة المياه خوفا من ان يتسرب الجان لأجسادهم، ويفسد ما اكتمل من خلقهم، وما استتب من عقلهم.
وفي احدى الليالي وحين اشتد موج البركة، وازداد ارتفاعا، مما دب رعشة الخوف في نفوس الضعفاء من دراويشه، نزلت عليه فكرة تقول انه يجب ان يغادر ضفاف البركة، الى مراكز العمران المأهولة بأشخاص يشبهونهم، ليأكل من أكلهم، ويرى مضاربهم وعرباتهم التي لا تجرها الدواب، مستعيذا من الشيطان الرجيم، الا يكون بعض الجن والعفاريت وراء ظاهرة العربات التي لا تجرها الدواب. فهل هي دواب لا تراها العين المجردة ؟؟ أو هو الجن الذي يجب طرده بالبسملة وذكر الله ؟؟
ولكن الحكاية التي أقلقت أبو هواش، الباحث العظيم من المشرق، صاحب القول الفصل والرأي السديد. هي اسماء الشوارع، ففي شارع بمدينة تونس قرأ، ويا لهول ما قرأ: "شارع ابن شرموطة". أستغفر الله ألف مرة عن لفظه لهذا التعبير، حتى لو لم يردده الا داخل دماغه، وقال لنفسه بتصميم واصرار: ان المسالة يجب ان لا تترك للجاهلين.
في فجر اليوم التالي حط مضربه أمام مبني بلدية تونس منتظرا مختارها، أو سيدها، او حاكمها، لا يعرف كيف يسمونه في هذا البلد الغريب بأسماء شوارعه.
وما قاربت الساعة من التاسعة وإذا بقافلة مراكب لا تجرها البغال، وبألوان شتى تقترب من المبنى، ويترجل من العربات، أشخاص تفوح منهم روائح الياسمين والليمون وزهر الأقحوان، فاستعاذ بالله متشائما من هذه الرائحة التي تليق بالحريم، ولكنه تمالك نفسه نظرا للقضية الأخلاقية العظمى التي أخذها على عاتقة، وتقدم ممن توسم فيه أنه أعلاهم مرتبة، وقد اصاب كما تبين بحدسه، وبادره بدون مقدمات عن اسم الشارع المستهجن والذي يسمى، أستغفر الله "شارع ابن شرموطة" وهو مثير للاستهجان والحياء. ضحك محدثه حتى كاد يستلقي على الأرض، وسأله عن حاله وبلده وأم عياله، واستفسر عن اسمه، فرد بفخر وصوت مرتفع: محسوبك محمد أبو هواش، كاتب وباحث لا يشق له غبار في جامعات وكليات المعمورة بشرقها وغربها.
أهلا وسهلا بك ببلدك تونس رحب فيه الشخص، وأضاف: نحن في تونس لا نزعل ضيوفنا. وسنكون عند حسن ظنك. سنغير على شرفك اسم الشارع، ولكن يجب بحث الموضوع في مجلسنا واتخاذ القرار.
ومضت الأيام ... ومنذر يعتريه القلق ولا يعرف الاطمئنان قبل معرفة ما جرى لاسم ذلك الشارع، وهل حقا استجاب كبير التونسيين، الذي تحدث اليه. لطلبه الأخلاقي؟
ولتطمأن نفسه القلقة، أوفد مرة أخرى بمهمة عاجلة الى تونس، ولكن هذه المرة اركبوه بغل يطير.
وصل تونس، ورفض ان يلتزم ببرنامج الزيارة مع مضيفيه الكرام، وطلب نقله للمنطقة حيث الشارع ذو الاسم المستهجن، لفحص ما آل اليه مطلبه الأخلاقي.
ارتج قلبه في صدره وهو يقترب من الشارع اياه، وصل الشارع، ولكنه أصيب بصدمة لم يتوقعها أبدا، ليس لأن اسم الشارع لم يتغير اسمه، بل غيروا أسم الشارع، ولكنهم أغبياء مطبقون، سجلوا الاسمين، الجديد والقديم: شارع محمد أبو هزاع هواش (ابن شرموطة سابقا) !!
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com