عندما سألت عدد من الأصدقاء هذا السؤال: "أيهما أهم: الإنسان أم الأرض؟" كانت معظم الأجوبة بأن الإنسان أهم من الأرض. أما من جاوب بأن الأرض أهم، فعندما حددت السؤال له مجدداً: "أيهما أهم: ابنك أم دونم أرض"، عاود وغيّر الجواب ليقول ابني أهم من كل الدونمات والأراضي في الدنيا. وسؤال المليون هنا إذن: لماذا يضحي الناس بأبنائهم من أجل أوطانهم؟ هل يضحون من أجل الأرض وكل ما عليها من خيرات، أم أجل الحُكم، أم من أجل الحرّية والحياة الكريمة، أم ماذا؟
ولا شكّ ان الشعوب في كل العالم تنظر إلى موضوع التضحية من أجل الأوطان نظرة محترمة وتعطيه قيمة أخلاقية عالية. فجميع الشعوب التي تم احتلال أراضيها ناضلت وضحت بأبنائها من أجل تحرير أوطانها. ومن هذه الشعوب الشعب الفلسطيني الذي قدّم، وما زال يقدم، آلاف الشهداء والجرحى والأسرى من أجل فلسطين وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. ولا يتردد أبناؤه في التضحية بأرواحهم من أجل الدفاع عن أرضهم والتصدي لجيش الاحتلال واعتداءات المستوطنين الصهاينة. فأرض فلسطين غالية على أبنائها، والفلسطينيون مستعدون لتقديم الغالي والنفيس من أجل تحريرها. ولا ينظرون إلى الأرض على أنها دونم أو آلاف الدونمات، لها سعر ولها قيمة مادية فقط، بل هي الوطن والبيت الذي يأويهم ودونه يبقوا مشردين تائهين دون كرامة.
وإذا عدنا لسؤال المليون، وجرّدنا الأرض عن باقي الأمور المعنوية المرتبطة معها، فبالتأكيد عندما تقارن دونم أرض بحياة ابنك لن تتردد لحظة في الإجابة أن ابني أغلى من كل الأراضي الدنيا. ونعطي مثالا هنا لعائلتين متجاورتين قد يتقاتل أولادهما من أجل خلاف على بعض الأمتار على الأرض التي بينهما، وقد ينتج شجارهما عن مصرع أحد أولادهم قتلاً على يد ابن الجيران. وهذا المثل ليس بعيدا جدا عن الواقع. وقد حدث بالفعل بين عدد من العائلات المتجاورة وتم قتل شاب أو أكثر بسبب الخلاف على الأرض. إلا أنه لا شكّ أن الأهل من كلا العائلتين قد يندموا بعدها ندماً شديداً لهذه النتيجة الدموية المأساوية وخسارة الأرواح بسبب بضع أمتار من الأرض. وربما لأن الأرض هنا مجردة نوعاً ما من القيم الوطنية العليا، كما في النضال من أجل مقاومة الاحتلال. ولو علم العائلتين مسبقا أن الشجار بين أولادهم سيؤدي إلى قتل أحدهما، لقاموا باحتواء الشجار بكل الطرق الممكنة ولما سمحوا أن تنجرّ الأمور إلى القتل وسفك الدماء من أجل بضعة أمتار خلافية من الأرض. فالأرض وحدها كعنصر مجرد تفقد قيمتها العليا إذا لم تقترن بالقيم الوطنية السامية والحرية والحياة الكريمة.
والشعوب تتقاتل أيضاً من أجل الحكم والسيادة والاستقلال. وتريد أن تحكم نفسها بنفسها لا أن تكون محكومة من شعب آخر. ولطالما حلم الشعب الفلسطيني أن يحكم نفسه بنفسه، لا أن يحكمه الإسرائيليون أو أي جيش احتلال آخر. ولذلك قبلت القيادة الفلسطينية مشروع حلّ الدولتين لأنه سيؤدي إلى دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة وكل ما فيها من خيرات، فوق الأرض وتحتها، ويعطي الفلسطينيين حريتهم وكرامتهم.
وهنالك فئات متزايدة من الشعب الفلسطيني التي فقدت الأمل بحل الدولتين، خاصة بعد أن قضت إسرائيل فعلياً على هذا الخيار من خلال إجراءاتها التوسعية على الأرض ومؤخراً إعلان حكومتها الجديدة رغبتهم بضم المستوطنات والاغوار وربما الضفة الغربية بأكملها بالإضافة إلى تأييدها الأعمى من الأمريكان من خلال خطة ترامب التي كانت أولى خطواتها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. لذلك، زاد عدد الفلسطينيون الذين أصبحوا يؤيدون حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة، لأنهم يرون أن هذا الحل الذي يستند إلى حقوق متساوية لجميع المواطنين الفلسطينيين واليهود بغض النظر عن قوميتهم أو دينهم سيحفظ لهم وجودهم على أراضيهم ويعطيهم حريتهم ويصون كرامتهم، بل يفتح أيضاً الباب لعودة اللاجئين لبيوتهم وقراهم التي هجّروا منها.
وهناك من ينظر إلى أن حل الدولة الديمقراطية الواحدة هو أصعب من حل الدولتين، لأن إسرائيل ترفض هذا الخيار بشدة، خاصة وأن الكيان الصهيوني يريد أن يتخلّص من الفلسطينيين داخل الدولة العبرية الذين تصل نسبتهم إلى 20%، لا أن يضم خمسة ملايين فلسطينيي جدد. فبينما لا تعارض نسبة من الفلسطينيين العيش بحرية وسلام وحقوق متساوية مع الإسرائيليين في دولة ديمقراطية واحدة، يرفض معظم الإسرائيليين التعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة ويريدون دولتهم اليهودية النقية من أي قوميات أخرى.
لذلك وبعد موت حلّ الدولتين وصعوبة الذهاب لحل الدولة الديمقراطية الواحدة، يسعى عدد من السياسيين للتفكير بحلّ خلّاق قد يكون مقبولاً للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لأن ترك الساحة بدون حلّ، ومع انغلاق المسار السياسي والإحباط الموجود في الشارع الفلسطيني، قد يؤدي إلى انتفاضة جديدة لا يعرف أحد تبعاتها. فقد تكون انتفاضة سلمية مثل الانتفاضة الأولى عام 1987، وقد تكون انتفاضة مسلحة مثل الانتفاضة الثانية عام 2000، وقد تكون انتفاضة لعام واحد، وقد تمتد لعشرة سنين. وسواء كانت سلمية أو مسلحة، فقد تبقى تحت سيطرة القيادة الفلسطينية، وقد تصبح فوضى عارمة تخرج عن سيطرة الجميع، ويضطر الشعب الفلسطيني مجددا للتضحية بالمزيد من شبابه. لذلك، يبقى السؤال قائما: هل ممكن أن يكون هناك حل غير حل الدولتين أو حل الدولة الديمقراطية الواحدة؟ هل ممكن أن يكون هناك حل يحافظ على الأرض بينما يمنع إراقة المزيد من الدماء ويوقف القتل والعنف؟ وعلى أي أسس سيقوم هذا الحل إن وجد؟ هل سينهي الاحتلال الإسرائيلي؟ وهل سيوفر الحرية والحياة الكريمة للشعب الفلسطيني؟ هل هناك حل؟
3 حزيران 2020
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com