في هذا المقال سأقارن بين التغييرات التي طرأت على الإنسان وتلك التي طرأت على الحيوان في السنوات الأخيرة. سأعتمد في هذه المقارنة على مشاهداتي المباشرة التي تعتمد على عملي المباشر خلال الخمسين سنة الأخيرة مع قطعان البشر ومع قطعان المواشي وخصوصاً الأغنام. قد يستغرب بعض القراء هذا الكلام وقد يظن البعض الآخر أنني ألجأ إلى الرمزية أو الخيال.
كل من يعرفني عن قرب يعرف أنني طوال سني حياتي عملت موظفاً. وقبل الدوام وبعده عملت راع لما ملكت من مواشي كالبقر والماعز والغنم. أتقنت العملين كما أعتقد ولم أقدم احدهما على الآخر. وقد تعلمت من ممارستي للعملين وطبقت ما تعلمته من أحدهما لصالح الآخر دون تفرقة. مثال على ذلك: إحدى المُعالجَات في المكتب الذي كنت أشرف عليه دخلت إلى مكتبي مع الموظفة المُعالِجة بهدف تدخلي لأنها أرادت التخلص من أبنائها الثلاثة وتسليمهم لنا لوضعهم في إحدى المؤسسات التي ترعى الأطفال في خطر. كانت فتاة في مقتبل العمر ولم تنجح الموظفة في إقناعها بتغيير رأيها والحفاظ على أبنائها. استعملت أنا والموظفة كل الأساليب والنظريات التي تعلمناها في الجامعة أو التي قرأناها في الكتب لإقناعها أو لجعلها تغير رأيها وفشلنا. أصرت أنها تريد "أن تعيش حياتها". تذكرتُ أنني حججت إلى بيت الله وأصوم وأصلي فأفتيت للفتاة: "يا أختي عيشي حياتك وفي نفس الوقت حافظي على أولادك...إن ذلك ممكن". رفضت الفكرة وأصرت على موقفها فوجدت نفسي بعفوية تامة أقول لها: "إن النعجة يا أختي تنوح على ابنها أسبوعاً وأسبوعين عندما نفصله عنها للفطام وكذلك العنزة والبقرة فما بالك أنت تتنازلين عن أبنائك بهذه السهولة؟". طبعاً لم أقنعها وتركت لنا أطفالها وعاشت حياتها، وارتكبتُ إثم فتواي.(سأعد لهذه الظاهرة كمثال عندما أتحدث عما أصاب الامومة)
واليوم بعد بضع سنين من خروجي للتقاعد من الوظيفة وجدت نفسي أتشبث بالعمل مع المواشي ولم أتشبث بالعمل في مجال تخصصي مع البشر كما يفعل الكثيرون بعد تقاعدهم مع أن ذلك متوفر وممكن وأيضاً مجدي أكثر من العمل مع الماشية. فما السبب؟ ولماذا سلّمتْ تلك الفتاة أطفالها وتركت زوجها وذهبت لتعيش حياتها؟ ولماذا صار العمل مع قطعان الماشية في هذه السنوات أصعب بكثير مما كان عليه قبل ثلاثين أو أربعين سنة؟ ألأن رعاية القطيع كانت فرصة لتأليف الأغاني والمواويل والاستمتاع بالطبيعة فأصبحت مشقة ومعاناة؟. أم ماذا؟
سأحاول الإجابة على هذه التساؤلات. فمن ملاحظاتي التي جمعتها هنالك شبه بل وتطابق بين ما حدث للمواشي وبين ما حدث للبشر.
أنا راع بارع ومحترف وأصر على ممارسة هذه المهنة التي أظن أنهم سيُدَرّسونها في الجامعات كما يُدرّسون اليوم العلاج بواسطة الحيوانات. ولا أخجل بهذه المهنة بل أعتز وأفتخر لأن معظم الأنبياء إن لم يكن جميعهم عملوا رعاة قبل بعثهم. فمحمد صلى الله عليه وسلم كان راعياً وموسى وشعيب ويعقوب وأبناؤه عليهم السلام. فالراعي يكتسب الكثير من المهارات في القيادة وفي التعامل مع القطيع. ومن هنا جاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن بعث رعاة رسلا إلى أقوامهم. "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" فالأب راعٍ والمعلم راعٍ والموظف راعٍ والطبيب راعٍ. وكراع محترف فإنني سأعرض أمامكم بعض الصفات العامة والمشتركة لمختلف أنواع القطعان سواء كانت من الحيوانات أم من البشر وماذا حدث لهذه الصفات في ظل العولمة وتفشي الجشع:
أولاً: القيادة: القطيع هو مجموعة من الأفراد تعيش معاً وبسبب هذه العيشة يصبح لها أساليب وأنماط حياة مشتركة تناسبها. فالقطيع يسير باتجاه واحد وخلف القيادة المتبلورة من أفراده. هذا النمط تغير كثيراً بفعل عدة عوامل أهمها عند الحيوان أن القيادة الذاتية تلاشت بسبب تغير نظم الحياة والاعتماد على العلف أكثر من الاعتماد على المرعى فلم تعد هنالك حاجة لقيادة ذات خبرة بالمواقع الخصبة وبالتعامل والتعاون مع الراعي ولديها الجرأة في السير في المقدمة وتعريض نفسها لمخاطر الطبيعة. دائما كان للراعي دوراً مهماً في خلق هذه القيادة لسبب بسيط جداً وهو أن للراعي مصلحة في وجود قيادة في القطيع تسهل عليه التعامل معها فالتعامل مع فرد أو مجموعة أهون من التعامل مع أفراد أو مجموعات. أما عند البشر فقد كان ذلك صحيحاً حتى وقت قريب بفعل النظام البتريرخالى الذي اوجد الأب والشيخ أو المختار. كذلك فإن السلطة المركزية كانت تفضل التعامل مع المختار كقائد. والدول المستعمرة فضلت التعامل مع الملوك والرؤساء الذين عينتهم كرعاة للقطعان البشرية لأنها لم ترد التعامل مع القطيع مباشرة. ما حدث عند قطعان الماشية حدث عند قطعان البشر وخصوصاً بعد العولمة والفوضى الخلاقة التي حولت القطيع إلى أفراد لا مصلحة مشتركة بينهم ولا مجال للسير في اتجاه واحد لعدم وجود قيادة محلية واحدة بعد "إسقاط النظام". كل فرد صار قائد نفسه. وفي ذلك مصلحة عليا للدول المحتكرة المعنية بأسواق استهلاكية غير منتجة بعد خوفها الشديد من سقوط القيادات التي عينتها واستبدالها من قبل القطيع بقيادات تناسبه وربما لا تخدمها كما يجب.
عند الحيوان كالأغنام مثلاً حدثت تغييرات جينية بسبب تدخل الإنسان. إن الجشع دفع العلماء في الدول الجشعة إلى تهجين الأغنام البلدية بجينات من الخنازير أو الكلاب وذلك لكي تنجب الأنثى اثنين وثلاثة وأربعة خرفان في الحمل الواحد والهدف ويادة الأرباح. ويبدو ذلك جلياً في تصرفات الأغنام المهجنة. فمن صفات الغنم البلدي الذي انقرض تقريباً أنه وقت الحر يلتصق ببعضه ليحمي نفسه من حر الشمس وإذا سار يسير باتجاه واحد وليس في كل الاتجاهات وهو قليل الحركة مما يسهل من عمل الراعي. أما الغنم المهجن فهو سريع الحركة ويذهب في كل الاتجاهات ويصعب السيطرة عليه في المرعى وهي صفة معروفة للخنازير أو الكلاب. كما أن من ميزات الغنم البلدي ككل قطيع العودة إلى الحظيرة موطنه الثابت بمبادرته في ساعات المساء خوفاً من الظلام. بينما الغنم المهجن لا يعود، ويأنس بالظلام وهي صفة من صفات الخنازير التي لا تخرج إلا ليلاً، وليس لها موطن ثابت.
القطيع لم يعد القطيع بسبب عمليات التهجين ولم يعد مناسباً خروجه للمرعى لأنه لا مجال للسيطرة عليه. وبهذه الطريقة فقد الراعي عمله لأن الحظيرة هي ما يناسب قطعان اليوم وبذلك يمكن ضمان استهلاك الخلطات المصنعة وزيادة أرباح الشركات. في ظل النظام الرأسمالي الجشع الربح هو الهدف ولزيادة هذا الربح يتم إنتاج خلطات من الفضلات سواء فضلات الأطعمة والصناعات المختلفة وفضلات الطيور أو الحيوانات الأخرى كعلف للقطيع. هذه الخلطات المصنعة من مواد رديئة يضاف لها اللون والطعم والرائحة والمواد الأخرى التي تجعل الحيوان يدمن عليها ويستغيث عندما لا تقدم له. تماماً كإدمان الإنسان على المواد المصنعة كالكوكا كولا والسجائر. إن الكثير من المواد التي تقدم للقطعان البشرية كأطعمة تم تصنيعها بنفس الطريقة ومن مواد رديئة جداً أضيف لها اللون والطعم والرائحة ومواد أخرى تجعل الإنسان يتعلق بها ولا يستطيع الاستغناء عنها والهدف هو أن تحل هذه محل الأطعمة المحلية التي كانت الشعوب المستهلكة تنتجها. والهدف هو الربح والمزيد من الربح والسيطرة.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com