ظلت الورقة معلقة على مدخل الدار أسبوعاً كاملاً. ألحت عليه زوجته مرات عديدة أن يأخذها لسالم ابن أخيه ليقرأها له ولكنه رفض. طلب من زوجته وبناته ألا ينتزعنها من مكانها. أعلن تمرده على اليهود بتجاهلهم. لم تكن لديه وسيلة أخرى للمواجهة غير هذه الوسيلة. منذ أن فقد مواشيه وحصانه شعر بنوع من الحرية. تحرر من الخوف الذي كان يقيده.
كان في الحقل بين شتلات التبغ التي بدأت تنمو وترتفع عندما جاءته إحدى بناته تستصرخه أن الجنود يحاصرون البيت. جنود يحاصرون البيت؟ ولماذا يحاصرونه؟ هل كلفوا الجيش بمساعدة الشرطة في مطاردة بائعي التبغ وورق السجائر؟ ركض بسرعة فائقة نحو القمة ليجد أن الكثير من الجنود قد حاصروا بيته. اخرجوا منه أفراد أسرته وأبعدوهم عنه. وأخرجوا بعض الأثاث والأدوات المنزلية. حاول الاقتراب من البيت إلا أن الجنود قبضوا عليه ومنعوه من ذلك. أبقوه بعيداً. حاول الاستفسار منهم عما يجري. وقبل أن يسمع الإجابة رأى كتلة ضخمة من الدخان الكثيف ترتفع مصحوبة بانفجار صم أذنيه. مع كتلة الدخان ارتفع بساط أسود. زال الدخان والغبار مع نسمة غربية كانت تداعب المكان ليجد أن بيته قد زال واختفى من الوجود. ما رآه بساطاً كان سقف بيته ارتفع إلى أعلى مع كتلة الدخان الكبيرة وهبط ليغطي حجارته التي انتثرت.
لا، لا يمكن أن يحدث ذلك. أصابه كابوس شلَّ جسده وحوله إلى تمثال. بيوت الاسمنت لا تختفي بهذه السرعة. الخيمة قد تطير في لحظة بفعل عاصفة هوجاء، أما بيت الحجر فلا يطير. لا شك أن عيناه قد خدعتاه. هنالك أمر جلل قد حدث. ربما زلزال خرب كل شيء. فقد صلته بما حوله. يقف على قدميه ولكنه ليس موجوداً في هذا العالم. تركه الجنود وبدءوا بالانسحاب البطيء من المكان. كانوا مدججين بالسلاح ومحملين بالعتاد والذخيرة. ساروا ببطء وتثاقل وكأنهم خارجون للتو من معركة قاسية. عشرات الجنود بدءوا بالنزول عن القمة بعد أن فجروا بيته. هل هو المقصود أم أنهم كانوا يخوضون معركة في مكان آخر. لا شك أنهم عائدون من السويس. لكن لا تبدوا عليهم الهزيمة! يبدون منتصرين فماذا حدث؟ اقتربت منهم ابنته الكبرى فاطمة وهي تمسح دموعها وتصيح بصوت منكسر: "لا تفرحوا كثيراً...سيأتي جمال عبد الناصر ونعيد بناءه". أرادت أن تقول لهم أشياء كثيرة لكنهم لم يصغوا إليها. ربما لأنهم لم يفهموا ما تقول. لماذا فعلوا ذلك؟ كيف طار السقف إلى أعلى وكأنه ورقة خفيفة تلعب بها الريح؟ هذا البيت الذي قص حجارته من صخور الجبل وجلب رمله واسمنته من مسافات بعيدة ونقلها على الدواب وعلى رأس زوجته، اختفى خلال لحظات. السقف الذي اجتمع كل رجال القرية وشبابها وقضوا في صبه يوماً كاملاً من الصباح حتى المساء، طار كورقة في مهب الريح. ما أصعب أن يطير سقف! كيف طارت قرى ومدن بكاملها ولم ينتبه أحد! كيف فعلوا ذلك؟ ولماذا؟ هل هذه الورقة التي ألصقوها على مدخل البيت كانت إنذاراً بأنهم سيهدمونه؟ لماذا تركها ولم يأخذها لسالم ليقرأها له؟ حتى لو أخذها وعرف فحواها ماذا كان باستطاعته أن يفعل؟
تجمع أهل القرية على دوي الانفجار. جاءوا مهرولين ليروا منظراً لم يتوقعوه ولم يخطر لهم على بال. دار هرج ومرج واختلطت الآراء وتشابكت. منهم من قال أن صاحب الجبل مدين للدولة بمبالغ طائلة لذلك هدموا بيته. ومنهم من زعم أنهم عثروا في بيته على سلاح مهرب. ومنهم من قال أنهم يتهمونه بإيواء المتسللين. أما الأكثرية فقد أجمعوا أن البيت هدم لأنه في قمة الجبل. كثرت الأقاويل وتناقضت لكن الجميع أتفق أن صاحب الجبل يملك الكثير من المال وسيعيد بناءه.
أما هو فقد كان يعرف أنهم هدموا بيته لأنه ضعيف وهم أقوياء. ضعفه وقلة حيلته أغراهم بهدم بيته. الإنسان مخلوق قذر وشرير. الحيوان أفضل منه. الإنسان مخلوق بشع يستر بشاعته بالثياب ويغطي قذارته ورائحته النتنة بالعطور. الحيوان أفضل منه فالحيوان لا يستر بشاعته بالثياب ولا يلطف من رائحته بالعطور. الإنسان يستحم كل يوم وتظل رائحته كريهة والحيوان لا يستحم ولا رائحة له. حتى رائحة فضلاته أسوأ بكثير من رائحة فضلات الحيوان. الإنسان هو الشر بعينه وهو القذارة بعينها. لا هذا غير صحيح. صديقه الدمشقي كان يعطيه سريره لينام عليه وينام هو على الأرض. زهرة جميلة ورائحتها زكية دون عطور. وثيابها لا تستر بشاعتها بل تخبئ جمالها الذي يشبه جمال الجنية، حارسة الكنز، عندما تعرّتْ أمامه. لماذا لم تختطفه هو؟ ليتها فعلت ذلك.
فتح عينيه ليرى أن الشمس قد ارتفعت في كبد السماء وليرى أن بعض حجارة المنزل قد مزقت أطراف الخيمة. تذكر أبرهم اليهودي الذي قال له ذات يوم انه ابن الدولة. قرر أن يذهب إليه ويخبره بما فعلته الدولة بابنها. شعر انه بحاجة لهذه الأمومة بعد أن وجد نفسه وحيداً وضائعاً. أبرهم هو الوحيد الذي يستطيع تثبيت هذه الأمومة. تذكر أنه قال له انه يسكن في الهدار وراء المحكمة تماماً. قرر أن يسافر إلى حيفا ويفتش عنه. سينتظر في الشارع خلف المحكمة حتى يرى سيارته التي يعرفها، أو حتى يراه وهو عائد من العمل. سيخبره بكل ما تفعله به الدولة التي قال له عنها أنها أمه.
كيف سيصل إلى محطة الباص على شارع عكا صفد قرب كرميئيل؟ المشكلة ليست في أن يذهب سيراً على الأقدام. وإنما في خوفه من أن يراه الناس سائراً على قدميه وهو الخيّال الذي يعرفه كل سكان المنطقة. الكثيرون سيشمتون به وأولهم ابن أخيه وزوجته. والكثيرون سيسألونه: أين حصانك؟ لن يسير في الطريق السالك وسيتحاشى الالتقاء بالناس. سيتحاشى السؤال المحرج. سيسير في الجبال بشكل عشوائي حتى يصل المحطة ليتلاشى هذا السؤال الذي يوجعه كثيراً. سيلتقي بالثعالب والأرانب والذئاب والأفاعي خير من أن يلتقي بالناس.
وصل حيفا، إلى الشارع وراء المحكمة. هل يسأل المارة عن بيت أبرهم؟ لا يعرف إلا اسمه الشخصي فقد نسي اسم عائلته. وهل لهؤلاء عائلات؟ كاد يضحك بأعلى صوته. من سيسأل؟ ربما يكون هنالك أكثر من أبرهم وهذه مدينة وليست قرية ليعرف سكانها بعضهم. سينتظر حتى يراه قادماً بسيارته البيضاء. قرر أن يظل منتصباً في هذا الشارع حتى يرى أبرهم أو يرى سيارته. سيرافقه إلى بيته وسيرفض شرب القهوة قبل أن يلبي له طلبه. سيشرح له أن رفضه لشرب القهوة هو إشارة أن لديه طلب ويصر على تلبيته وليس لأنه لا يشربها. سيشرح له أن عدم شرب قهوة المضيف في العادات البدوية أمر جلل يجب فعل كل شيء للحيلولة دون حدوثه. تعب من الوقوف والنظر يميناً وشمالاً. رأى مقعداً خشبياً على بعد أمتار فألقى بجسده عليه وواصل مراقبة الحركة في جزء الشارع القريب من المحكمة. كل من يعبر في الشارع ينظر إليه لأنه يختلف عن كل ما حوله بسبب كوفيته وعقاله. ليته رماهما مع بني قومه الذين رموهما وذهبوا للعمل في تل أبيب. لو فعل ذلك لوفر على نفسه كل سنوات العذاب والشحشطة، ولما أضطر للبحث عن أبرهم ليوفر له أماً تحتضنه وترعاه. أو على الأقل لا تظلمه وتجور عليه.
ما الذي يفعله هنا؟ لا شك انه فقد عقله. لماذا لم يخترق الحدود ويصل إلى صديقه الدمشقي ويطلب مساعدته؟ لن يتأخر ولن يبخل. ولن يضطره لرفض شرب القهوة حتى يلبي طلبه. ماذا سيوفر له أبرهم؟ ربما هي كلمة قالها بعفوية. حتى لو قصد ما قاله من يضمن أن سينفذه؟ هل أبرهم يستطيع أن يجعل دولة تعترف بكل أبنائها؟ نعم يستطيع فهو يهودي وصاحب وظيفة محترمة ولا بد أن له كلمة في الدوائر الرسمية. "أنت ابن الدولة أيضاً" لا شك أنها جملة عفوية. لا ليست عفوية. لا يمكن أن يقول يهودي جملة عفوية.
قاربت الشمس على المغيب. وبدأ يشعر بالجوع والعطش. ليس في جيبه ما يكفي من النقود ليبحث عن طعام وماء. يجب أن يعود إلى القرية قبل حلول الظلام وتوقف المواصلات العامة. سيضطر للعودة إلى هنا في الغد. لا حول ولا قوة إلا بالله. لن يتنازل وسيفتش عن أبرهم حتى يجده فهو ملاذه الأخير. لماذا تورط جمال عبد الناصر في حرب اليمن؟ لماذا لم يحارب اليهود وينصرنا نحن المظلومين؟ هل حقاً سينصرنا؟ لماذا لم ينصرنا العرب وتركونا نواجه هذا المصير القاسي؟ نسي أن يضرب جرس الحافلة التي كانت ستواصل السفر لولا أن رجلاً آخر أراد النزول في محطة كرمئيل. كانت الشمس قد غابت وبدأ الظلام يغرق السهول والهضاب والوديان عندما بدأ صاحب الجبل بالسير بين الصخور والأشواك عائداً إلى خيمته. لم يسلك الدرب الذي شقه العمال الآتون من القرية إلى كرميئيل بأقدامهم خوفاً من أن يلتقي بأحد فيسأله: " أين حصانك؟".
عاد إلى خيمته منهكاً بسبب الجوع والعطش والانتظار الممل. لم يجد القطط بانتظاره. عرف أنها تقوم بعملها الذي لم يكلفها به أحد. إنها تطرد الأبقار من الجبل في مثل هذه الساعات من بداية حلول الظلام. شعر أن هذه القطط ستورطه أكثر مع دولة اليهود. انتفض بسبب هذا الشعور. من أين جاءه؟ هل وصل به الاستسلام إلى هذا الحد؟ على ماذا يخاف؟ ما أجمل الجنون. لأنه يحرر الإنسان من قيود العقل. في هذا العالم الظالم لا مكان إلا للمجانين الذين لا يفكرون بكل شيء. ليته لم يتزوج وينجب البنات. ليته ظل أعزباً.
عادت قطتان من قططه فقط. "ربيعة" لم تعد. لم يبال كثيراً لأنه ظن أنها تأخرت في طريق العودة. اقتربت "عاصفة" منه ولامسته بجسدها فلحقتها "شتوة" وكأنها غارت منها. بدأت القطتان بالدوران حوله وكأنهما يطالبانه بالثناء على ما قاما به. مسح ظهريهما بيده وحك لهما رأسيهما وما حول آذانهما فشعرا بنشوة فائقة. شعر بالقلق على ربيعة فليس من عادتها التأخر. هل أصابها مكروه لا سمح الله؟ هل تعرض لها راعي البقر بعد أن اكتشف أنها هي التي تطرد القطيع من الجبل؟ ربيعة لا تترك رفيقتيها ولا تبتعد عنهما.
نام ليلته فتراكمت عليه الأحلام والكوابيس. رأى ربيعة تسقط في كمين نصبه لها اليهود. أخذوها إلى عمارة عالية مظلمة. وضعوها في قفص صغير وأدخلوها في جهاز كبير من فتحة ضيقة. يريدون معرفة دوافعها للقيام بما تقوم به من عمل لا يناسب قدرات وطبيعة القطط العادية. حاولت الإفلات منهم والعودة إلى البيت ولكنها فشلت. من ينقذ ربيعة؟ إنها في محنة. والتقى مع أبرهم الذي استمع لطلبه وضحك بشكل متواصل جعله يخجل من نفسه ويعود إلى خيمته مغموماً مهموماً والضحكات تواصل تمزيق أذنيه.
أفاق متعباً وكأنه لم ينم. ربيعة لم تعد. من المؤكد أن مكروهاً قد أصابها. اليهود اكتشفوا أن القطط هي التي تطرد الأبقار من الجبل. خاف على عاصفة وشتوة. كيف يقنعهما بالتزام البيت وعدم التوجه لطرد الأبقار من الجبل. إنهما يستشعران الخطر ومن الصعب أن يتنازلا عن واجبهما في درئه. جاءت له زوجته بالفطور. للعسل طعم يفوق طعمه العادي. ربما لأن فمه كان جافاً ومراً فهو لم يذق شيئاً منذ البارحة. ليلى دخلت الخيمة مسرعة وهي تحمل القطة بين يديها وتصيح: "ربيعة" عادت. قفز صاحب الجبل ورأى القطة الجريحة. كان ساقها الخلفي ملطخاً بالدم نتيجة جرح كبير كشف عن عظم الساق من أوله حتى آخره. "وجدتها تأن وتتألم بين حجارة البيت" قالت الصبية لوالدها. أخذ القطة منها وقال: "نامت ليلتها في العراء يبدو أن ساقها مكسورة. أحضروا لي الماء والتراب لتطهير الجرح. أحضروا قطعة قماش نظيفة أيضاً". تفحص ساق القطة فقاومت لمساته لساقها بسبب الألم الشديد. الجرح كان عميقاً وكشف عظم الساق الذي كان سليماً ولم ينكسر. سيستعمل النبتة التي تشبه كثيراً نبتة النعناع، والتي تنموا بين صخور الجبل. هذه النبتة تعد دواءً شافياً للجروح وقد كان يستعملها كلما كسرت عنزة من قطيعه. في مثل هذه الحالات تقوم زوجته بتحضير كل شيء بسرعة فائقة دون أن يطلب منها، فالكثير من الحوادث المشابهة جعلتها تحفظ الدرس. ليلى وزوجته ساعداه على الإمساك بالقطة لتنظيف الجرح وتضميده بعد أن عصر عليه ما هرسته زوجته من نبتة الجرح.
سيسافر إلى حيفا اليوم أيضاً. يجب أن يلتقي أبرهم قبل فوات الأوان. لن يعود دون أن يلتقي به حتى لو اضطر أن يقضي ليلته على ذلك المقعد الخشبي. سيفتش عنه حتى يجده. سيقول له أن اليهود والعرب هم أبناء عم فاليهود هم أبناء إسحاق والعرب أبناء إسماعيل. وإسحاق وإسماعيل هما أخوان وأبناء لأبونا إبراهيم. هذا ما عرفه من صديقه الدمشقي الذي كان يسأله كثيراً عن العلاقات بين اليهود والعرب في فلسطين وكأنه كان يتوقع حدوث النكبة. سيقول ذلك لأبرهم رغم أنه بدأ يشك في ذلك بعد كل الذي فعله اليهود بعد أن أصبح لهم دولة. لقد تمسكنوا حتى تمكنوا. وعندما تمكنوا نسوا الماضي وفتحوا صفحة جديدة مع الجميع. صفحة كلها ظلم وقهر. لم يكونوا الوحيدين الذين فتحوا صفحة جديدة. أقاربه في القرية أيضاً فتحوا صفحة جديدة من الطمع والجشع. نسوا عاداتهم الجميلة وتقاليدهم الأصيلة وبدءوا يقلدون اليهود ويأخذون عنهم كل ما هو سيئ وقبيح.
مشى في المسرب الذي شقه في الجبل ووصل محطة الحافلات في كرميئيل. انتبه أن سائق الحافلة ينظر إليه بطرف عينه. نظرته غير مريحة ليس لأنها جاءت من طرف عينه بل لأنها مملوء بالكراهية والاحتقار. صاحب الجبل خبير من الدرجة الأولى في فهم لغة العيون. تذكر زهرة. عض على شفته السفلى. وتذكر ربيعة الجريحة. ندم على كل شيء. لماذا لم يظل في الشام. لو ظل هناك لمنع الانفصال بين مصر وسوريا. كان يمكنه التجند في صفوف الجيش وقد يصبح قائده. عندها كان سيحافظ على الوحدة ويمنع الانفصال ولن يسمح بحدوثه مهما كلف الأمر. لم يكن هذا خطأه الوحيد. ارتكب الكثير من الأخطاء. أخطأ عندما أورد القطيع إلى بئر الخشب وهو يعرف أن اليهود يترصدون للقطعان لنهبها. واخطأ عندما شق طريقاً إلى الجبل وبنا بيتاً في قمته. وأخطأ أيضاً عندما تسبب في موت القطة. ألم يخطئ عندما لم يستطع إقناع القاضي أن الأرض أرضه؟ أم يخطئ عندما خبأ حصانه في السريسة ومكن زبائن سهام من معرفة مكانه؟.
وصل إلى حيفا شاعراً بثقل الأخطاء، ونادماً على كل شيء. وكم كانت فرحته كبيرة عندما رأي سيارة أبرهم تقف إلى جانب الرصيف. تنفس الصعداء وشكر ربه الذي أفرج كربه. أبرهم لم يغادر البيت بعد. سينتظره حتى يخرج لأنه لا يعرف شقته. لا بد أنه يسكن في واحدة من شقق هذه العمارة الطويلة المؤلفة من خمسة طوابق. للعمارة ثلاثة مداخل ولا شك أن كل مدخل يفضي إلى الخمسة طوابق. سينتظره قرب السيارة حتى يخرج فلا يمكن التخمين في أي شقة يسكن. الوقت يمضي ببطء شديد وكأنه توقف. الشمس ارتفعت في السماء فكيف لم يذهب هذا اليهودي إلى عمله بعد؟ ربما لن يسافر اليوم للعمل. أو ربما سافر بسيارة ثانية. الأرصفة تعج بالمشاة الكثيرين الذين يسيرون كالقطعان الواردة إلى المنهل في ساعة حر شديد. ما أتفه الإنسان! في المدينة يضيع ويصبح لا شيء.
قرر صاحب الجبل أن يدخل أحد الحوانيت أسفل العمارة الطويلة ويسأل صاحب الحانوت عن أبرهم هل خرج إلى العمل أو في أي شقة يسكن. كيف سيسأله وهو لا يعرف اسم عائلة أبرهم ولا اسم والده، فقد يكون أكثر من أبرهم يسكن في هذه العمارة. حمد الله وشكره أن أبرهم لم يغير سيارته. فلو غيرها لم استطاع الوصول إليه ولأضاع فرصة العمر في أن يكون ابن هذه الدولة الرحيمة على أبنائها الظالمة على الغرباء. ربما تكون ظالمة على الجميع؟ كل الذين يراهم في الشارع من حوله يبدون قلقين ومتوترين. على ماذا يفتش هؤلاء؟ إلى أين يركضون؟ لا يستطيع أن يكون مثلهم. إنه سعيد هناك في جبله. بين الأشجار والثعالب الجائعة. وبين طيور السمن وأسراب الحجل يرشح كل صباح. الشمس تغمره بالأمان كلما أشرقت من الجولان وتسلقت السماء. منذ فترة طويلة لم يراقب هذا المشهد. اليهود لم يتركوا له مجالاً لمثل تلك اللحظات. كاد يغفو واقفاً عندما تلقى ضربة خفيفة على كتفه: "ماذا تفعل هنا يا رجل؟". لم يصدق صاحب الجبل أن أبرهم يقف أمامه بشحمه ولحمه وينظر في وجهه: "جئت أبحث عنك". قال ذلك وعانق صديقه بحرارة. "وكيف عرفت أنني أسكن هنا؟" سأل أبرهم بنبرة من لا يريد جواباً لكن صاحب الجبل أجابه: "أنت أخبرتني أنك تسكن في الشارع الملاصق للمحكمة من الخلف". هز أبرهم برأسه علامة الموافقة ثم قال: "هل جئت خصيصاً لزيارتي أم أنت عابر طريق؟". " أي طريق؟ لقد جئت أفتش عنك لأنني في ضائقة وأريد مساعدتك" قال ذلك وتوقع دعوته للدخول إلى البيت لكن الرجل أجابه وهو ينظر إلى ساعته بعصبية: "كيف حالك؟ أنا الآن ذاهب إلى العمل وقد تأخرت كثيراً. سأزورك في الجبل... سأزورك الأسبوع القادم يوم الثلاثاء بعد الظهر. هل يناسبك؟" "أرجوك أن تزورني اليوم أنا في مصيبة" "اليوم لا أستطيع... غداً بعد الطهر، هل يناسبك" "طبعاً يناسبني وسأكون بانتظارك إلا إذا نسيت أن تأتي" قال صاحب الجبل. " لا لن أنسى. سأكون عندك بعد الظهر. حضر القهوة وسنشربها معاً" فتح باب سيارته ومد يده لمصافحته مضيفاً: "متأسف أنني لا أستطيع استقبالك لأنني مضطر أن أذهب للعمل... نلتقي غداً".
-الجليل -
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com