د. باسم عثمان في مقاله:
المرحلة الآن ليست مرحلة تحقيق الحل الوطني، وإنما مرحلة إحباط الحل الأميركي الإسرائيلي، فلا بد من تعزيز عوامل الصمود الفلسطيني على أرض فلسطين والحفاظ على نقاط القوة والمكاسب
ثمة حاجة ماسة إلى نسق سياسي جديد تحدد مساره قيادة سياسية جديدة تمثّل جميع الفلسطينيين بدون استثناء ولا يقتصر دورها المنوط بها على جغرافية الضفة و قطاع غزة ,وهذا يتطلب التحرر من أوسلو وكل استحقاقاته والتزاماته البديلة عن الاجماع الوطني التوافقي الاستحقاق الرئيس لأي حركة تحرر وطني من الاستعمار والاحتلال, وإعادة صياغة الرؤية السياسية والاستراتيجية الفلسطينية الجديدة الكفيلة بانخراط الكل الفلسطيني وأن يتحوّلوا إلى لاعبين سياسيين مُنظمين يتصدرون المقاومة الوطنية والمجتمعية ضد المشروع الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي.
ان الإنكار المتعمد "للرسمية الفلسطينية" لأثار أوسلو ونتائجه التدميرية , فاقم المشكلات الناجمة عنه في الوقت الذي لم يحصل اية مراجعة نقدية له, فضلاً عن أن ذلك أفضى إلى تكلّس العقل السياسي الفلسطيني السائد، والذي كفّ عن البحث عن خيارات بديلة، ناهيك عن إشاعته البلبلة في إدراكات الفلسطينيين الجمعية، بما فيها إدراكاتهم لمصيرهم المشترك ولعلاقتهم بقيادتهم السياسية والتمثيلية, رغم الإقرار الشعبي الفلسطيني مع مثقفيه وكادراته بضعف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها ، ودخولها حالة "الموت السريري" ,الا انهم لا زالوا يعتبرونها كيانا حيويا ووطنيا (شرعيا وتمثيليا)، والمفتاح الرئيس لإحياء المشروع الوطني الفلسطيني وتجديد مؤسساته وبرنامجه، لكن دوما هذا الطموح يصطدم بهكذا نموذج للقيادة الفلسطينية الحالية في (شكلها وجوهرها) وهو شكلٌ من أشكال السلطة المركزية "الأبوية"، يدور في فلكها شخصٍ واحد أو فصيل سياسي واحد تساعده وتسانده شبكة من " المحسوبيات " والمنتفعين ,هذا التمركز "السلطوي" في يد فاعل سياسي واحد أدى إلى فشل وتجميد كل المؤسسات الفلسطينية الحالية في عملها الديمقراطي بالنيابة عن الشعب الفلسطيني، وأدى إلى تهميش الفاعلين السياسيين الفلسطينيين الآخرين وإقصائهم عمدًا, ما تسببَّ في احداث هوة واسعة بين القيادة الفلسطينية الحالية والنخبة "المصلحجية" التي تدعمها من جهة , وبين سائر مكونات الشعب الفلسطيني وقواه الحية من جهة أخرى.
التجديد المؤسسي:
هذا النموذج للنظام السياسي الفلسطيني الحالي في أمس الحاجة إلى إصلاح وتجديد مؤسسي من خلال الفصل الكامل بين جميع السلطات : الوطنية -التمثيلية منها عن الإدارية - الخدماتية (السلطة الفلسطينية- منظمة التحرير), لأنه لا يجوز بالمطلق وفي حالتنا الفلسطينية بالذات ان يتولى (عباس) مثلا كل السلطات الوطنية والإدارية, ويُمسِك بزمام السلطة التشريعية في غياب المجلس التشريعي الفلسطيني ,ويتخذ بمفرده القرارات السياسية بشأن حاضر الفلسطينيين ومستقبلهم بمراسيم رئاسية في ظل غياب مطلق لكل المجالس التشريعية الفلسطينية, وما لهذا النموذج من آثارٌ كارثيةٌ على القضية الفلسطينية وحضورها الوطني والإقليمي والدولي .
-هذا الفصل المؤسساتي يجب ان يعتمد على مبدأ اللامركزية (من القاعدة الى الأعلى) في تجديد هيكلية النظام السياسي الفلسطيني و مؤسساته، أي بعيدا عن سلطة الجغرافيا وسلطة الاحتواء المركزية , وان ينصب التركيز والاهتمام على المجتمعات المحلية والمدنية الفلسطينية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والشتات ,في سياق الدعوة المطلبية الملحة لفصل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها عن السلطة الفلسطينية واداراتها ومن خلال انتخابات ديمقراطية حرة مجتمعية ونقابية ومهنية وعلى مبدأ التعددية النسبية للجميع دون استثناء.
ان القضية الفلسطينية تمر الان في أسوأ مرحلتها منذ نكبة فلسطين، وهذا لم يكن قدرًا ولا نتيجة المؤامرات والأخطار الخارجية فحسب، بل تتحمل القيادة السياسية الفلسطينية أولًا، وطرفا الانقسام الفلسطيني ثانيًا، وبقية القوى والنخب السياسية ثالثًا : المسؤولية عمّا وصلنا إليه وعن الأخطاء والخطايا والتنازلات والأوهام وحالة الانتظار وتقديس البقاء واحتلال" المواقع الثابتة" والعمل من دون رؤية استراتيجية ولا تخطيط ولا خطط ملموسة، وأيضا المسؤولية عن الرهان على المتغيرات الإقليمية والدولية التي لن تأتي بالخير إذا لم نكن قادرين على توظيفها، وتغليب المصالح الفردية والعائلية والسلطوية الفصائلية على المصلحة الوطنية العامة.
في السياق نفسه ,فتح عدم الرد الفلسطيني الرسمي القوي على إعلان القدس عاصمة موحدة أبدية "لإسرائيل" ونقل السفارة الأميركية إليها، والسعي لتصفية قضية اللاجئين، وإسقاط خيار الدولة الفلسطينية؛ وعدم مواجهة الاستيطان والضم والزحف الإسرائيلي ميدانيا, شهية حكام واشنطن وتل أبيب، فلم : "تنطبق الأرض على السماء" كما صرحت نيكي هيلي المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة
السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير:
لقد كان قرار انشاء سلطة الحكم الذاتي بعد اتفاقية أوسلو بمثابة عملية تحنيط لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها التي جوفت من الداخل ,وتأكلت هيئاتها واطرها تدريجياً وبشكل مبرمج ومسيس، وأخذت المؤسسات الجديدة للسلطة تبتلع دوائر المنظمة واحدة بعد الأخرى ,وبدأ دورها بالانحسار وأصبحت سلطة الحكم الذاتي هي المرجعية الدولية بدلا منها , بحيث عُمِلَ على تغييب مؤسساتها عن العمل والظهور وقُلِّصت ميزانيتها حتى باتت كالشبح وبإرادة سياسية للمطبخ السلطوي .
ولهذا نرى ان الكل الفلسطيني وبكل اطيافه، يقوم بالتحرك فقط ضمن هامش الصراع وثنائية السلطة وعدمية القضايا بين (فتح وحماس) والتي باتت تشكل عبئا ثقيلا على الشعب الفلسطيني , فتارة تنشغل الساحة الفلسطينية بقضية المصالحة بينهما ,وتارة أخرى بقضية الانتخابات الفلسطينية وعلى منصات الاعلام دون التركيز على الياتها وترتيبها وأدوات استحقاقها, حتى أصبحت استحقاقا اجوفا وشعارا تكتيكيا شعبويا لشريحة المنتفعين في السلطة في الضفة والقطاع.
لقد اصبحنا على يقين تام اكثر من ذي قبل ,بغض النظر ان النوايا كانت حسنة ولا زالت ,لكن واقع الحال وتعقيدات الحالة الفلسطينية وتدني مستوى السقف السياسي للقائمين على القرار الفلسطيني وامتيازات الشريحة السلطوية, جعل من شعار انهاء "الانقسام" وشعار الوحدة الوطنية واولوية إعادة احياء منظمة التحرير ومؤسساتها ,كاجترار معزوفة موسيقية لا صدى لها ,وتكرار هذه المعزوفة مع استحقاقات أوسلو الكارثي ,اصبح يشكل مدخلا للاعتراف بكافة الاتفاقات التي وقعتها المنظمة مع "إسرائيل" , وما علينا الا ان نصطف كطابور هامشي في صفوف المعارضة اللفظية والمراوحة في مواقعنا الثابتة وان نسجل للتاريخ موقفنا الإعلامي والادبي واللفظي؟!!.
ان مخطط الغاء منظمة التحرير الفلسطينية وثوابتها واحلال سلطة الحكم الذاتي مكانها بات عمليا في حكم المنتهي , خدمة لأطماع النيوليبرالية الفلسطينية الجديدة المتربعة في سدة السلطة , و كل المحاولات لإعادة الروح والفاعلية لها باءت وستبوء بالفشل ومضيعة للوقت وهدر لتضحيات الشعب الفلسطيني امام تعنت وإصرار الشريحة الفلسطينية التي تهادت وانساقت مصالحها مع مصالح وجود الاحتلال الإسرائيلي.
الثابت والمتحول:
أطاح الشعب الفلسطيني في مسيرته الكفاحية التاريخية بكل الاطر القيادية التي فشلت في تحقيق ما نشئت من اجله، فقد تخلى عن الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج امين الحسيني عندما لم تنجح في دحر العصابات الصهيونية وبادر بالتخلي عن حكومة عموم فلسطين لفشلها في مقاومة ضم الضفة الغربية الى الأردن واسترداد قطاع غزة من الإدارة المصرية...., فهل حان الوقت للعمل على تأسيس الياتٍ وطنية أخرى بديلة وبغض النظر عن "التسميات والمسميات"؟ آلية جديدة تؤسس لبرنامج وطني يؤكد على الثوابت والقضية الوطنية وحقوقها الثابتة ,آلية تتبنى المقاومة بكافة اشكالها كنمط للحياة ,آلية نضالية شاملة لجميع النواحي السياسية والجماهيرية والثقافية والاقتصادية والعسكرية والتنظيمية والدبلوماسية وغيرها ,آلية تتفاعل مع الواقع الفلسطيني والعربي والعالمي الجديد وتتحرك في ثناياه وتصيغ التحالفات المبدئية بما يخدم الأهداف الوطنية والاستراتيجية الفلسطينية ,آلية تعمل على استنهاض روح المقاومة وتستمد ثقتها ودعمها من الجماهير، الية تسعى الى تفكيك سياسات الاحتلال بدلاً من التعاون والتنسيق معها؟!.
الحقيقة الاكيدة والواقع يشير الى ان الصيغ والهيئات الوطنية القديمة الجديدة – وبعد سياسة تفريغها من محتواها وثوابتها بوعي كامل – هي ذاتها السلاح الأمضى والرئيس في مواجهة الثنائية السلطوية الفلسطينية, بتجريدها منها وسحب البساط من تحت قدميها وتقليم اظافرها , لان مطلب انهاء الانقسام واحياء منظمة التحرير ومؤسساتها سيبقى شعارا طالما هذه العقلية الرسمية الفلسطينية ممسكة بزمام الأمور وتنتهج ذات السياسة التفريطية بالمشروع الوطني الفلسطيني ,مستغلة المبدئية الوطنية والكفاحية لعموم الشعب الفلسطيني وقواه الحية ومطالبتها بالمحافظة على الثوابت الوطنية وتلازم الحقوق, لذلك ,لا بد من العمل والتحرر من نمطية المواقع الثابتة لمجموع القوى الوطنية الفلسطينية ,على إيجاد اليات وطنية بديلة يساهم فيها كل الشعب الفلسطيني وعلى كامل امتداد جغرافية وجوده من خلال لقاءات وحوارات وطنية تنطلق من القاعدة الجماهيرية بمختلف اطيافها الاجتماعية والنقابية والمهنية والمدنية ,و تحوز على ثقة الشعب الفلسطيني وتدافع عن مصالحه وحقوقه وحشر السلطويين والمنتفعين على هامش الحراك الوطني الفلسطيني.
ان تنفيذية منظمة التحرير" بحلتها الجديدة "، تخلت عن دورها بنفسها كقيادة "شرعية" للشعب الفلسطيني وهجرت مكانتها السياسية بشكل "واع " بعد أن أصر رئيسها أن يحيلها الى "لجنة استشارية", وبالمناسبة هي المرة الأولى في تاريخ منظمة التحرير تعقد لجنتها التنفيذية اجتماعات تسميها "تشاورية" و بدون حضور رئيسها احيانا، ما يشير الى عملية اضعاف دورها ومكانتها، وخاصة ان كل ما يصدر عنها لا يمثل "قيمة سياسية" ولا يحمل صفة التنفيذ العملي، وبدأت تتصرف وكأنها هيئة ملحقة " بالمطبخ السياسي السلطوي", ذلك ما بدا واضحا ضمن حركة "الدعاية السياسية" برفض إعلان بومبيو حول "شرعنة الاستيطان".
والسؤال هنا، أليس دور اللجنة التنفيذية للمنظمة هو تنفيذ قرارات "الشرعيات الفلسطينية "؟ وهي الجهة المنتخبة والمخولة لذلك؟، أليست هي الجهة التي لها حق سحب الاعتراف المتبادل مع الكيان الاسرائيلي دون الرجوع لأي جهة أخرى، أليس من صلاحياتها دون غيرها اعلان دولة فلسطين لتحل مكان السلطة الفلسطينية وهي المرجعية العليا لكل مكونات السلطة ؟!، وكيف تطالب اللجنة التنفيذية بتنفيذ القرارات وهي "الجهة العليا" التي تمتلك حق النقض والتنفيذ!!.
ان الثابت في الحالة الفلسطينية هو القضية والحقوق الثابتة والتلازم بينهما، اما المتحول فهو الاليات والأدوات والاشكال الوطنية التي تخدم الثابت والدائم.
المرحلة الآن ليست مرحلة تحقيق الحل الوطني، وإنما مرحلة إحباط الحل الأميركي الإسرائيلي، فلا بد من تعزيز عوامل الصمود الفلسطيني على أرض فلسطين والحفاظ على نقاط القوة والمكاسب، وأيضا لابد من تفعيل البعد العربي للقضية الفلسطينية الذي من دونه لا يمكن أن تستمر القضية ودون إلغاء الدور الخاص الفلسطيني، والدعوة لإطلاق عملية سلام من خلال مؤتمر دولي كامل الصلاحيات، مرجعيتها القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية بحيث يتم التفاوض على تطبيقها لا التفاوض عليها او حولها.
د. باسم عثمان - كاتب وباحث سياسي
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com