الشيخ محمد سليمان في مقاله:
مُحرم على الشعوب أن تفقد الأمل بالله ثم في قدرتها على التغيير، ولا يجوز لنا اليأس والقنوط والتراجع والتقهقر فهذه سنة الله في خلقه
إن الصراع بين الحق والباطل والخير والشر قديم بقدم الحضارة الإنسانية، وإن الصراع على السلطة والنفوذ قديم بقدم الدعارة والبغاء، وإن استعباد البشر والاستحواذ على مقدرات الشعوب ونهب ثرواتها قديم بقدم أطماع الفرس والروم ، وإن نهضة الشعوب وتمردها على واقعها وتحررها من قيود التبعية قديمة بقدم الثورة المحمدية على أغلال الشرك وقيود الجهل.
لكن السؤال الملح والعاجل ، ما هي المعايير التي نقيّم بحسبها الفرقاء ؟ من هم أهل الحق والخير ومن هم أهل الباطل والشر؟ وهل لكل فريق وجهة نظر معتبرة ووجيهة يدافع فيها عن امتلاكه للحق المطلق ؟ أم أن الحق كله يملكه فريق واحد دون الآخر؟ والباطل كل الباطل محصور في فئة بعينها ؟
لطالما اعتقدت بأن الخير والشر أمور نسبية ، أي أنه لا شر مطلق ولا خير مطلق إلا في زمرة الأنبياء والرسل ، فأولئك الذين اصطفاهم الله واختارهم لقيادة البشرية فغرس فيهم الخير والحكمة المطلقين ونزع من صدورهم غرائز الشر وبراثن الحقد والحسد ، أما ما دونهم فلا نشهد بعصمة أحد منهم فكلهم ذوو خطأ ، والجميع بلا استثناء معرض للشهوات والشبهات ولنزعات الشر الغرائزية.
والأمر ينسحب على مختلف فئات البشر بكبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم وعالمهم وجاهلهم ، ومقياس خيرية أحدهم يكمن في أفكاره وأقواله وسلوكه ، فمن يغلب على طبائعه الخير والعطاء وحب الناس فسنزكيه ونحكم عليه بالخيرية ، وعلى النقيض من ذلك فإن من يغلب عليه الشر والغل وكره الناس فقد غوى وضل ، ومن هنا نستطيع أن نفهم نفسيات الكثير من البشر ونفسر سلوكياتهم .
وبعد هذه المقدمة المقتضبة نأتي لما يعنينا في هذا السياق ألا وهو فهم وإدراك معنى أن تقوم فئة قليلة من المجتمع المصري بالاستحواذ على مقدرات بلد بأكمله والاستيلاء على ثرواته والتحكم باقتصاده والقفز على السلطة والاستماتة على الاستمرار فيها ، وتهميش السواد الأعظم من الشعب وقتله وسحله في الشوارع والميادين العامة وسجن أعداد مهولة من الشباب والشيوخ والمفكرين والسياسيين وشيطنتهم إعلامياً والتشهير بأعراضهم ونهش لحومهم جهاراً على وسائل الإعلام المختلفة ، إن لم يكن هذا الشر المطلق فما هو الشر إذاً ؟
يقول تشي جيفارا : الثورة يصنعها الشرفاء ويرثها ويستغلها الأوغاد .. هذا ما حصل بالفعل ، فقد أقدم على ثورة الخامس والعشرين من يناير ثلة من أطهار الناس نادوا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية واستطاعوا في ثمانية عشرة يوماً إزاحة واحد من فراعنة مصر في العصر الحديث ، وبسذاجة لا تغتفر سلم الثوار السلطة للمجلس العسكري وسرعان ما اكتشفوا بأن ثورتهم قد سلبت منهم وبأن قلة من حيتان الجيش قد استغلوا حراكهم لتحقيق مصالح شخصية ، فسرعان ما علا صوت الثورة المضادة بقيادة شرذمة من الإعلاميين والقضاة والعساكر التابعين للسلطة والمنبطحين للبيادة العسكرية ، فسجن الشباب وشُيطنت الثورة وأصبحت سُبّة في جبين أصحابها ، "فبعد سقوط الديكتاتور يذهب الثائر للنوم والراحة ويستيقظ المتخاذل لاستلام السلطة بكل همة ونشاط" (علي شريعتي)، وهنا يحق لنا أن نستعير قول الزعيم الصيني ماو تسي تونغ : " من يقوم بنصف ثورة كمن يحفر قبره بيده .... نعم فإن الأحرار في مصر اليوم يدفعون ثمن عدم استكمالهم لثورتهم والإطاحة بالدولة العميقة التي ما فترت يوماً ولا زالت تتحكم بمفاصل الدولة حتى الساعة . وعلى الرغم من الوحشية والبربرية التي تتعامل بها السلطات مع الشعب فلا زال الشعب متمسكاُ بسلميته فها هي مجزرة رابعة العدوية تتحدث عن نفسها ، ألاف من القتلى والجرحى والمعتقلين ولم تسجل حالة رد فعل أو دفاع عن النفس بأي سلاح من أي نوع كان، وهنا يتسائل الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي ويقول :
"الشعب المصري يبالغ في الأدب مع ظُلّامه ، لم أقرأ عن ثورة بهذا القدر من السلمية في تواريخ الأمم".
يعتبر الكثير بأن محمد علي بطل قومي ، غير مؤدلج ولا ينتمي إلى تيار سياسي أو ديني وهو ما أكسب كلامه زخماً شعبياً لأنه تحدث إلى الفئة الأساسية في الشعب المصري وهي فئة الفقراء المهمشين والعمال والفلاحين الذين طالما هُضمت حقوقهم وسُلبت خيرات بلدهم ، وهذا النموذج الشعبي قد يتغير ويأتي بأشكال متعددة ، وهذا الطبيعي في حال الشعوب التي ذاقت طعم الحرية وكسرت حاجز الخوف في يوم من الأيام ، فالأيام والسنين القادمة حبلى بالمفاجئات والتغييرات على جميع المستويات الدولية والإقليمية والمحلية. فالليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر ، ولا بد لقيود الظلم والطغيان أن تنكسر عاجلاً أو آجلاً ، فأنظمة القهر والاستعباد لا بد لها من نهاية وهي إلى زوال بإذن الله ، وظني بأن الشعوب ستنهض وتنتفض وتكسر الأغلال ليس من أجل لقمة العيش فقط ، بل لحرياتها وكرامتها وعزها ومجدها وحقها في التوزيع العادل لثرواتها ، يقول ماركس : الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع ثورة ، فالطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً وشيخ الطاغية مهمته بأن يجعل وعيك غائباً .
مُحرم على الشعوب أن تفقد الأمل بالله ثم في قدرتها على التغيير، ولا يجوز لنا اليأس والقنوط والتراجع والتقهقر فهذه سنة الله في خلقه وتلك هي الأيام التي يداولها الله بين الناس وهذه هي سنة التدافع المستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، المهم هو أن نتعلم الدروس ونستقي العبر من الماضي ، فأي ثورة على الظلم وهي قادمة يقيناً بالله لا بد لها من اجتثاث الظلم من جذوره وفرض معادلات مختلفة كلياً تصب في المصلحة العامة للناس وتكفل التوزيع الحقيقي لثروات الشعوب ومقدراتها ، يقول علي شريعتي : إن مشكلتنا في الثورات هي بأننا نطيح بالحاكم ونبقي على من صنعوا دكتاتوريته، ولهذا لا تنجح أغلب الثورات لأننا نغير الظالم ولا نغير الظلم !
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com