أعرف هذا الشخص ولا أعرف اسما آخر له غير الشيشكلي، لا أحد في قريتنا يذكر اسمه الحقيقي، حتى زوجته هناء تناديه الشيشكلي. في آخر مرّة التقيته، لفتت نظري طيبته الفائقة وسمرته التي اكتسبها من حرارة الشمس، وسار كما يبدو تحت أشعتها سنوات طوال، حتى صبغته باللون البني الذي هو أقرب إلى السواد.
أخذت أفكّر بالاسم الغريب الذي يحمله، خجلت أن أسأله وأنا التي أعرفه منذ الطفولة بهذا الاسم... تسللت إلى "العم غوغول" وسألته عن معنى الاسم، وكانت النتيجة كما يلي: كلمة شيشكلي أو جيجكلي بالجيم المعجمة تعني صاحب الورد باللغة التركية، والشيشكلي المعروف جدًّا هو العقيد أديب بن حسن، المولود عام 1909 في مدينة حماة في سورية، والذي توفي عام 1964 في البرازيل، وشارك في معركة تحرير سورية من الفرنسيين عام 1945، وكان قائد الانقلاب العسكري الثالث في تاريخ سوريا الذي حدث في1949، وأصبح رئيساً لها لمدّة عام ونيف وكان أيضًا على رأس لواء اليرموك الثاني في جيش الإنقاذ في فلسطين عام 1948.
زادت حيرتي أكثر بعد حصولي على هذه المعلومات، فأنا أعرف أن الذي أمامي، هو ابن الفلاحين، وهو نفسه كادح، يعمل في البناء، ولا يمتّ بصلة لكل تلك المعلومات التي جمعتها... لم يهدأ لي بال حتّى عرفت تفاصيل هذا البنّاء الذي هو بمثابة الحجر الذي نسيه البناؤون.
**
أيام سطوع نجم العقيد السوري الشيشكلي، تزامن في ذلك الوقت أن المعلم الشيوعي العريق نمر مرقص كان يعمل مدرّسًا في قرية دير الأسد. وهو الذي انخرط في العمل الوطني ضد الاستعمار البريطاني والمؤامرة على فلسطين منذ سنوات شبابه الأولى في منتصف سنوات الخمسين، حيث كان من الشيوعيين الملاحقين من الحكم العسكري والذي أصبح فيما بعد قائدا جماهيريا شيوعيا وشخصية وطنية شعبية معروفة.
شقشق الفجر واضاءت الشمس قرية دير الأسد التي تقع في شمالي البلاد على سفح جبل "المغر" في الجليل الأعلى، حيث كان نمر مرقص (أبو نرجس) يُدرّس في مدرستها الابتدائية في ذلك الحين. تدعى هذه المنطقة الشاغور وتضم قرى: دير الأسد، البعنة ومجد الكروم. وتبعد ما يقارب 22 كيلومترا عن مدينة عكا شرقا، شمالي طريق المواصلات الذي يربط عكا بمدينة صفد.
كانت الشرطة الاسرائيلية تعتقل نمر مرقص بين الحين والآخر بتهمة نشاطه السياسي المعلن، فقد كانت المؤسّسة الرسميّة في وزارة التعليم ترفض أن يكون بين صفوفها معلم شيوعي، وقد لوحق الشيوعيون في ذلك الوقت في كل مكان، ومرارا وتكرارا كانت الشرطة تأتي إلى المدرسة الابتدائيّة في قرية دير الأسد وتعتقل المُعلم نمر اثناء تدريسه للطلاب.
كانت المدرسة على سفح الجبل وكانت الشرطة تداهم القرية وسكانها وتعتقل المعلم وتنزل به في الشارع الجبلي مسافة طويلة وبانحدار قوي لا يقوي على السير به إلا سكّانها، فما كان من طلاب المدرسة الابتدائية إلا أن يهرولوا بوجوه ملتهبة مستعدة للقتال بقيادة الطالب محمد جبر الملا، ليرجموا سيارة الشرطة بالحجارة، احتجاجًا على اعتقال مُعلمهم المحبوب. سابقوا سيّارة الشرطة بأزقة القرية الملتوية والضيّقة ورجموها، بينما كان المعلم يرى ذلك بأمّ عينه ويفيض بهم فخرًا. وبعد عودته من الاعتقال وقبل فصله من جهاز التعليم نهائيًّا، تحدّث إلى طلابه عن القائد السوري الشيشكلي الذي كان يقاوم الاستعمار وحينها تعرف الطلبة على الشيشكلي وعلى معنى النضال ضد المحتل ونصرة الضعيف.
علّم المعلم نمر مرقص في مدرسة دير الأسد الابتدائية عام 1956، حيث كانت المدرسة عبارة عن غرف مستأجرة في عدّة بيوت من القرية، منها في بيت عبد العزيز أمون، ودار المستر، ودار صالح الخطيب ودار يوسف الذياب وغيرها من الغرف، وعلّم في هذه الغرف كل من المربي مارون خريش من قرية الجش وأحمد عباس من قرية نحف وسعاد خوري من قرية الرامة وعبد العزيز أمّون واحمد حجازي ومحمود حجازي من دير الأسد وغيرهم من المربيين العريقين. كانت الشرطة تلاحق نمر مرقص من بيت لبيت في قرية دير الأسد لتلقي القبض عليه بسبب مقاومته للاحتلال، فتتلبد الغيوم فوق سماء القرية من هؤلاء الذين لا يخجلون باستمرار من تحويل جذوع الاشجار إلى مشانق. وكانت جميع البيوت تحويه وتحميه وتخبئه خلف الستارة وفوق السدّة، وفي اقنان الدجاج، وفي فراشهم وبين أهلهم وكأنه ابن لهم ولقريتهم.
برز بين طلبة الصف الرابع ابتدائي الطالب محمد جبر الملا الأصغر بين زملائه في صفّه من ناحية الحجم، أسمر اللون يميل إلى البني الغامق وكان حِرِك جدًّا ونشيطا، بسيطا وعشوائيّا وطليقا وغير مُدجّن. وعندما كان يرى رجال الشرطة قادمين بسيّارتهم، كان يركض ووراءه كل طلبة الصف وهو أولهم وأسرعهم، ليصل الاول إلى مُعلم المدرسة نمر مرقص وينبهه ليهرب من براثن رجال الشرطة، أقبح القلوب الموجودة في الطبيعة.
وفي إحدى المرّات انتبهت الشرطة إلى ما يقوم به فامسكوه من تلابيب قميصه وهددوه بالضرب فنظر إليهم كمعلمه بتحدّ بعينيه الحادتين النفّاذتين وأنفه الذي يشبه منقار النسر وملامحه التي تلفت الأنظار وهو دقيق الملاحظة للدرجة القصوى. حينها، أطلق عليه مرقص اسم الشيشكلي، تيمّنًا باسم القائد السوري المعروف.
ولوقع الاسم الجميل الشيشكلي عند أهل قرية دير الأسد، أخذ أترابه ينادون محمد جبر بهذا الاسم، ومع مرور الوقت نسوا أسمه الأصلي، علما بأنّه ترك المدرسة وهو ما زال في صف السادس، بعد أن أجبره والده على ذلك إذ كان بحاجة لأيدٍ عاملة تساعده في تربية المواشي وفلاحة الأرض. رفض الشيشكلي ترك المدرسة، وفي مرّة ترك القطيع وذهب إلى المدرسة، فعاث قطيع الماشية فسادًا في أرض الفلاحين، ممّا أثار غضبهم على والده فقام بصب جام غضبه على الشيشكلي وأبرحه ضربًا، ووقعت الواقعة وكانت هذه بداية نهاية التعليم الدراسي وانتقال الشيشكلي من العلم الى العمل، وقد أصبح فيما بعد معلم بناء ماهر ومعروف في مهنته.
كبر الشيشكلي واشتد عوده ولم يفارقه هذا الاسم، حتّى هو نفسه كان إذا أراد إرشاد أحد الغرباء على بيته كان يبلغه بأن يسأل عن بيت الشيشكلي وسيدلّونه عليه بسرعة.
الطريف في تلك القصة أيضًا أنّه يوم زواجه وعندنا تمّ دعوة الناس للاحتفال بعرسه، اضطّر أقرباؤه ومن عمل على مساعدته بالدعوة للاحتفال أن يبلغوا جميع أهل القرية بان عرس الشيشكلي- والمقصود محمد جبر الملا- سيتم في تاريخ كذا وكذا، على عكس ما هو متبع، ففي مثل هذه المناسبات كالأفراح والاتراح يذكر الاسم الحقيقي فقط، ولكن هيهات لأهل القرية أن يعرفوه لو ذكر الاسم الحقيقي فقط، فاختفى الاسم وبقي اللقب.
**
فيما بعد، التقى الشيشكلي مرارًا مع القائد نمر مرقص في المناسبات الوطنية التي كان يحضر بها إلى القرية ليدعو الناس لنشاط سياسي معيّن، كان يلتقي به ويتعانقان ويناديه فقط باسم الشيشكلي وهو يناديه بالمعلم.
توفّي المعلم الرفيق نمر مرقص (أبو نرجس) في عام 2013 وهو في الثالثة والثمانين من عمره. وقد أفنى عمره على طريق الكفاح الأممي منذ شبابه المبكّر وحتى يومه الأخير. وهو يحسب من بين الذين فضّلوا الموت وقوفًا مرفوعين الهامات على الحياة الذليلة الخانعة أمام الفاشيّة. وقد شارك الشيشكلي محمد جبر الملا في جنازته واختنق بعبراته وهو يهمس في وداع معلمه:
يوم اخذتك الشرطة، ألقينا عليهم الحجارة وأعادوك إلينا، لكن هذه المرّة أخذتك يد المنون فلن تكون الحجارة إلا لبناء مستقبل زاهر وضعت أنت يا معلم حجره الأساس في قلوبنا وعقولنا، ولن يكون هذا الحجر مجرّد حجر نسيه البناؤون.