ستتخلّى أمّك عن حبّك وسيدينك الجميع"
كان لا بد أن أعود إلى أساس الرواية، كي أُصفع بحقيقتها التي كنت أصارع نفسي في تصديقها طوال فترة القراءة، حتّى تأكّدت من جميع المصادر بأنّها سيرة الكاتبة الذاتية، قصّة حياتها هي، وليست رواية مؤثّرة عابرة.
"لا تخبري ماما"، هي رواية للكاتبة أنطوانيت ماغواير، الاسم الذي لطالما كرهته وكانت تحب ان ينادوها بدلا عنه بتوني، هذه الرواية عمرها 12 عامًا، إذ أبصرت النّور بلغة الكاتبة للمرة الاولى في العام 2006 ولكنّها تُرجمت إلى العربية فقط في العام 2016 في طبعتها الاولى، أمّا أنا فقد انكشفت منذ فترة قريبة عليها، وقررت أن تكون الافتتاحية في قائمة الكتب التي سترافقني في عامي الجديد 2019.
قد تكون قراءتي لهذه الرواية طويلة قليلا، سأحاول قدر الإمكان شرح الحالة التائهة التي أوصلتني إليها الكاتبة، بالكثير من الـ لماذا التي تكاثرت داخلي، وحتّى حرف الرواية الأخير لم يسعفني في إيجاد أجوبة على "لماذاتي"! ورغما عنّي خانتني دمعة لم أعهدها في قراءاتي السابقة كلّها.
بدايةً الرواية في مبناها، رواية قصيرة مكوّنة من 287 صفحة، تتمحور حول ثلاث شخصيات، البطلة توني والجبانان والدتها ووالدها، لغة التّرجمة فيها خالية من الأخطاء إلا ما ندر، لغة بسيطة حدّ الملل أحيانًا، ولا أعتب في ذلك على الكاتبة بل القليل على المُترجِم ذلك إذا حاد نوعا ما عن الفصاحة التي تُنشي القلب والعقل لسبب ما، بالرّغم من أنّ كفّة ميزاني تبرّئه من بساطة اللغة لأني أرجّح بأنّه ترجم ما قرأ، وأنّ اللغة التي كُتبت في هذه الرّواية هي لغة الطّفلة انطوانيت وبصوتها، حيث كبّت كلّ سوداويّتها على الصّفحات دون أن تبيّضها لغة الكاتبة توني. الغلاف كئيب، يتحدّث عن نفسه ويقترب بشكل كبير من الافصاح عن محور القصّة الأساس من خلال الصورة والعنوان، أما الصّفحة الثانية من الغلاف، صفحة الرواية الأخيرة على الإطلاق، والتي حملت بعض الجُمل التي وجدتُها جذّابة إلى حدّ قد يُشعرك بألم تهمّ بعده لقراءة صفحات الرواية لمعرفة غدر الوالدين هذا الذي تتحدّث عنه الكاتبة.
"ستتخلّى أمّك عن حبّك وسيدينك الجميع".
هذه جملة المفتاح في الرواية، في كل مرة قرأت هذه الجملة كنت حقيقة أصاب بنوع من الهلع، أقرأها بعينيّ توني وكنت أشعر بالكثير الكثير من الغضب، لأنّ الأم في قصة ابنتها، هي أم متخلّية لا مبالية، كل همها هو الرّجل الذي أحبّته وقَبِلَ أن يتزوج بها رغما عن أنّها تكبره بخمسة أعوام، برزت شخصية الام المهزوزة، المحبّة العمياء لزوجها، العاشقة لرجل لا يستحق، حبّ أسود مبهم المعالم لا أوّل له ولا آخر، حب خطير مريض مجنون. فكيف لأم في هذه الدّنيا أن تغضّ النّظر عن أذيّة أطفالها، أن تقبل على نفسها فكرة أن يغتصب زوجها ابنتهما وان تبقى ملتزمة الصمت بل وتشاركه الحب في اليوم التالي؟! كيف ذلك؟ ولماذا؟ خرجتُ عن أطواري مرارا غضبا من هذه المرأة الصّامتة السّاكتة عن حق ابنتها، كيف؟!. القطط، ذلك الحيوان الأليف، إذا اقترب أحد من صغارها وأشعرها بخطر تراها تتحوّل إلى وحش مستعد أن يقتُل حرفيًّا في سبيل إنقاذهم! كيف لأم أن تنام على وسادتها وهي تعلم أنّ ابنتها تعاني الأمرّين من والدها وتحيد عن مساعدتها؟ تخلّت هذه الوالدة عن ابنتها بشكل لا يصدّقه عقل.
تكررت اعتداءات والد توني الجنسية لها لتنتهي بفضيحة زجّت به في سجن عابر أطلق سراحه بعد سنوات قليلة، الفضيحة التي حُقّق معها بسببها في سبيل معرفة هوية والد الجنين، لتردّ بعد صمت طويل "لم أضاجع غير أبي"، الفضيحة جعلتها تُجهض جنينها لتُحرم طوال حياتها من تكوين العائلة السعيدة التي حلمت بها.
في المرّة الأولى التي مارس والدها معها الجنس وهي طفلة في السادسة من عمرها لم تسعفها الكلمات القليلة التي تعرفها في أن تصف ما مرّت به، فقالت لوالدتها بأنّ والدها قبّلها بحميمية، ولم يكن للوالدة ردًّا سوى إخراسها، إخراس توني وكفّها عن هذا الكلام، الذي اعتبرته هراء، وأسكتتها بتغاضيها هذا طوال 7 سنوات إلى أن حملت. من أين جاءت هذه الوالدة بكل تلك القسوة كيف قبلت في أن تكون شريكة صامتة في جريمة اغتصاب ابنتها الطفلة، وشريكة في التّكتّم على زوجها المجرم المريض؟
والدها لم يكن مجرمًا بالفعل فقط، بل بالتّفكير أيضًا، أفشى لصديقه السّر الذي أرعب به طفلته إن أفشته لأحد، كان يعرف بحقيقة ما يفعله صديقه بابنته، فقرر الصديق زيارتها عدّة مرّات في المدرسة حتّى أمنت له تلك الطفلة، إلى أن قادها لنفس مصيرها مع والدها: "أعرف أنك تفعلين هذا مع والدك". وعندما عادت إلى المنزل وأخبرت توني (10 سنوات) والدها بفعلة صديقه صرخ في وجهها وهو يرفع قبضته مهددا: "لا تفعلي ذلك مع أحد سواي".
-"لا تخبري ماما يا أنطوانيت، إنّه سرّ بيننا، أسمعت؟".
-نعم يا بابا.
عانت هذه الطفلة بصمت، كبرت قبل أوانها، دون أصدقاء الّا واحدة "كلبتها"، دون عائلة حاضنة محبّة، تُضرب، تُغتصب، تُهمّش، تُهان، لاحقتها عيون النّاس بعد أن كُشف السّر، وأسئلتهم المقرفة التي لا تنتهي، إذا كنتِ رافضة لمَ بقيت صامتة لسنوات؟ ألم تخبري أمك؟ ليأتي السؤال الأكثر إهانة في حياتها: "أكنت تستلذّين بما يفعله بك أبوك يا أنطوانيت؟"!
الجميع أشعرها بالذنب، وبأنّ عليها تحمّل نتيجة صمتها طوال السنوات السبع، بالرّغم من أنهّا كانت تعلم في قرارة نفسها انّ لا ذنب لها، وأنّها كانت مكرهة على السكوت وعلى تحضير الشاي وانتظار والدها الذي يريد أن "يهديها شيئا" حتّى يصل نشوته –الهدية- في كل مرّة أراد بها ذلك معها، لينتهي بإخراج منديل من جيبه ويرميه لها ليختتم جريمته بالقول: "امسحي بهذا"! حاولت الانتحار مرّتين لكنّها كانت أقوى من كل ما حدث.
ما لم أجد له تفسيرًا حقًّا، هو حُب توني الكبير لوالدتها، الذي كان يتضاعف مع مرور السنوات بدلا من أن يتلاشى، إلى أن أسلمت والدتها الروح! كيف استمرّت في حُبّ امرأة شاركت في قتل الأمان بداخلها منذ أن كانت طفلة؟ لماذا لم تهجرها؟ بالفعل أسئلة كثيرة لم أجد لها تفسيرات في هذه الرواية، ولو لم تكن الرواية واقعية لتوقّفت عن القراءة في مرحلة ما لشدّة الغضب والألم.
طريقة السرد في هذه الرّواية كانت مشوّشة، متوتّرة غير مرتّبة ربّما لأنّ توني كتبت عن توني نفسها، لم تكن قصّة سمعتها من أحد، وكان ضرب من الجرأة أن تتعرّى الكاتبة إلى هذا الحدّ أمام القرّاء.
أنصح بقراءتها بالفعل، رواية تستحق أن تمنح من الوقت في القراءة الكثير، تُؤلم تُعلّم وتُلهم.
الناصرة
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com