انها نسائم أواخر تموز، وقت المغرب ليس المساء! وقت بين بين؛ تُسلّم الشمس أجنحتها للقمر وتحُطُ عينها على صدره. الهواء ليس له لون ولكن بعض العيون ترى الهواء تراه جيدا جيدا ( وأتذكّر اغنية ميادة بسيليس تقول: وينك يا قلوب الي بتحب وما بتخاف وينك يا عيون الي بتشوف الهوا الشفاف) يا الله كم رافقتني هذه الأغنية وكم ...
بعض الهواء تراه يحمل قصصا وحكايات تسمعه جيدا، هواء بين بين فهو يشي بأوائل آب، وهذه هي الحال بين بين...
نسائم الآن، لون الجبل من الغيم، موسيقى في الخلفيّة كأنها وُجدت خصيصا لهذه اللحظة، هذه اللحظة تماما تعيدني إلى هناك!
الكل مسرعون، الشمس الحارة، الأبنية والناس كثيرون كثيرون وهي هناك تسير بثباتها المعهود وتراقبهم دون شيء محدد. هو كان في بعض الأيام هناك...
وسط الصخب والضجيج كان لحن البيانو من بعيد وقبل أن تصل يُحرّك وجدا في القلب، وصارت تُميّز عزفه وصارت تُميّز لحنه، نظارته الشمسية في الحقيقة لم تكن كذلك بل كانت نظارة سوداء...
وهي اعتادت ان تجعل لنفسها نفسا في كل مكان فكانت تؤثر ان تقف هناك لدقائق، ناظرة للسماء وبعض النظر يطول في قصره، وتمر نسائم، فجأة كانت نسمة فأخرى ولحنه يزداد شجنا تماما حينها ، فتسأل نفسها يا ترى من منهما يتفقّ مع الآخر لمثل هذا التزامن؟! وفي طرف العين لحنها الآخر وقبل ان تمتلأ بدمعها ، كان اللحن يتغيّر وفجأة يرسم صورة لغابة خضراء او تلّة أو زهر او فرح غريب، فرح من غادر حزنه للتو...
فتغادر مكانها، خطواتها ترسم للمكان هيئة أخرى، تحاول ان تروي القصّة؛ الوقت غريب واالحن أليف والجسر المعلّق وصخب السيارات أدناه ولناس دمىً تتحرّك دون وعي، وهناك هي تسمع لحن البيانو يخفت شيئا فشيئا...
وكلما خفت اللحن كلما عادت خطوتها لصلابتها وثباتها ، وكلما عادت عيونها الى حجم الوقت...
كان يراها، هكذا اخبرها لاحقا حين سألها إن اعجبها عزفه... كانت رؤياها تسعده فيتغيّر اللحن سريعا حيث النهر الجميل يسير بين أحضان الفراشات... هي لاحظت هذا التغيّر ولكنه ضرير، فعصاه المتكئة على حافة البيانو تشير الى ذلك ونظارته السوداء المعتمة!
اللحن يروي حكاية، والعازف راوٍ ماهر، تدنو فيبتعد ، تبتعد فيدنيك...
والحكايات كلها الحان اختلف عازفوها واختلفت الدمى فيها، وبقيت الحكايات...
لم يكن ضريرا وكان يراها جيدا ويميّز ملامحها وقدومها قبل أن تأتي، هو مرض في البصر يحدّ من الرؤية ولا يمنعها.. وأحب وقفتها بعيدا عند السماء والشجر
وكانت كلما أتت مرّت نسمة على يديه فيصير اللحن فراشات مضيئة...
وكلما رحلت خفت ضوء ما بين الخطوة والخطوة...
واستمر اللحن يرسم قدومها كلما ذهبت...
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net