سونا زعبي عثمان:
أثبت العديد من الأبحاث منذ منتصف القرن السابق وحتى الآن أن قدرة الشعب على التطور تبدأ من خلال استكشافه لموارده الحقيقية والذاتية الكاملة، العقلية أو الجسدية
أنا عربية، فلسطينية، وُلِدْتُ لثوريين فلسطينيين استطاعوا حماية سكان مرج بن عامر في شمال البلاد من التهجير
هل نستطيع نحن الأهل حث أطفالنا على الإبداع في الرياضات الاولومبية، دون أن نُفكر ونقرر مُسبقا من سيُمَثلون وأي علم سيرفعون؟
نختار، كل يوم، مستقبل لغة أطفالنا، وبأي لغة نحادثهم، وبأي لغة سنقرأ لهم قبل أن ينامون، والى أي مسرح سنأخذهم في نهاية الاسبوع؟
من أنتَ؟ أُريد أن أعرفك، والى أين ستأخذني معك؟ في يومنا هذا، وبالرغم من المحاولات المستمرة لتحويل الفلسطينيين العرب المتمسكين بأراضيهم وبلدانهم الى مواطنين اعتياديين، نستطيع أن نقول، وبعد سبعين سنة من الإحتلال، بأن الدولة اليهودية الحالية، قد فشلت الى الان في هذه المهمة.
لكن كيف يرى العربي الفلسطيني نفسه يا ترى داخل حدود الدوله بعد خمسين سنة من اليوم؟
وأين يرى أحفاده بعد مئة سنة؟
أنا عربية، فلسطينية، وُلِدْتُ لثوريين فلسطينيين استطاعوا حماية سكان مرج بن عامر في شمال البلاد من التهجير.
أحملُ جوازَ سفرٍ إسرائيليٍ في حقيبتي، وأحملُ جوازَ سفرٍ فلسطينيٍ عربيٍ في عروقي.
أتحدث بالعربية، أدندن بالعربية وأحلم بالعربية. أطبخ البامية والفاصولية واقرأُ نوال السعداوي ومعروف الرصافي وأُفَضِّل الشاي بالميرامية.
أُخَطِط في السنة القادمة أن أرى عمرو خيرت في أوبرا القاهرة، وأحلم أن أستمع يوما ما لمشروع ليلى على مسرح بعلبك.
فمن أنا؟
ومن هم أولادي؟ وأولادُ أولادي؟
من هم اليوم؟ ومن هم في الغد في هذا الواقع؟
وما هو مصيرنا في حال استمر الوضع السياسي كما هو، أو في حالة حدوث تغيير جذري للمعالم السياسية؟ وهل نستطيع أن نختار طريقاً واضحاً ومدروساً لمجتمعنا في المستقبل منذ الان؟
هل سيتكلم ويكتب أولادنا العربية بطلاقة ويستمرون بالإنتماء الى عروبتهم إن لم نكن واعيين تماما وبكل لحظة للمحاولات الدؤوبة، لمحي كل أثر للعربية في شوارعنا، في مدارسنا، في بيوتنا وفِي طلاقة لساننا؟
هل نستطيع ذلك إن لم نكن واعيين أيضا لتبنيها المدروس لأسلوب التهكم والإستهزاء الدائم بقدرة لغتنا على محاكاة العصر الحديث؟ بينما تعمل ليل نهار لإثراء لغتها؟
هل ستستطيع حقا التغلب على ألسنتنا وإستبدال لغتنا بلغة أخرى؟ لغتنا هذه التي تحتوي على 12 مليون و300 ألف كلمة، بينما تحتوي اللغة العبرية على 45000 كلمة فقط!
لغتنا التي أنجبت، ولا زالت تُنْجِبْ بعد مئة سنة من الكسل الإبداعي، مئات الآلاف من الكلمات للمئات من لغات العالم، لغتنا هذه التي تستطيع الآن وبعد سنوات عديدة من الأبحاث وتعدد الاّراء أن تُعَبِّدَ طريقها للعرش لتكون من أول اللغات التي تحدثتها وكتبتها البشرية.
فهل يبدأ الاحتلال بلغتنا؟
إنّي لأفهم حقا خوف الدولة من لغتنا، اذ ربما كنت سأفعل الشيء ذاته لو كنت أنا المُحْتَلْ، كنت سأكون ذكية بما فيه الكفاية لأعرف أنني إن أردت أن أكسر شوكة هذا الشعب الجبار، الذي لا يُكسَر، علي أن أنتقل بمقصي الى الجذور وليس للأغصان، فأبدأ أولاً بزعزعة إيمانه بلغته، ثم بثقافته ومن ثم العمل المدروس واليومي على محي وعيه التام لإنتمائه.
فهل نستطيع تعليم أطفالنا لغتنا العربية الحقيقية، بقواعدها، بنحوها وبخطوطها في نظام مدارسنا اليوم؟
وهل حقا نستطيع أن نطمح أن يدرس أطفالنا يوماً من الأيام في جامعات عربية في الناصرة وحيفا ويافا والقدس؟
وما الخطر الذي قد يحدث لنا كشعب ولكل فردٍ منا لو إنشغل أولادنا في المستقبل بإهتمامات الحياة اليومية والعادية فكرسّوا جلَّ وقتهم وجهدهم في البحث عن رفيقهم ودفع ايجار الشقة وفي البحث عن مكان يقضون به رحلة الصيف، دون أن يهتموا بمستقبل لسانهم؟
وهنا بدأت أبحث من جديد، فكي نحاول أن نجيب حقا على كل هذه الأسئلة نحتاج الى معرفة الأهداف أولاً، كان علي أن أفهم جيدا ما الهدف وما الفائدة من محافظة الإنسان على لغته الأم بل وتطويرها أيضا، وما الخسارة في تهميشها تدريجيا؟
وما الفائدة التي سأجنيها من لغة تنحَّت جانبا في الأبحاث والدراسات العُليا؟
حسنا، إن لم نأخذ بعين الإعتبار في بحثنا ثروة وذكاء اللغة العربية وإعتبارها في الأبحاث اللغوية على انها أعظم لغة في العالم على الإطلاق ودون منازع، وإن لم نأخذ بعين الإعتبار تفوقها على كل لغات العالم من ناحية الإيجاز، أي قدرتك على استعمال القليل من المفردات لتعبر عن شيء (ذلك الشيء تراه متجليا في الترجمة، فنرى أن حجم الكتاب يصْغُرْ بشكل ملحوظ عندما تتم ترجمته من الانجليزية للعربية على سبيل المثال).
وإن لم نأخذ بعين الاعتبار أيضا المدرج الصوتي الواسع لمخارج الحروف، ولا لجمالها في خطوطها التي تفتح بحرا كاملا بل محيطا من الإبداع الفني، وإن لم نأخذ بعين الإعتبار ملايين الكتب الخارقة في العلوم والأدب والثقافة التي وُلدت حتى الان ولا سيما في فترة العصري الذهبي للغة، فإن لم آخذ بعين الأعتبار كل هذا وإهتممت فقط بالبحث العلمي عن الفائدة، فما الذي سيستفيده الانسان العربي من إتقانه وتطويره للغة العربية؟
أثبت العديد من الأبحاث منذ منتصف القرن السابق وحتى الآن أن قدرة الشعب على التطور تبدأ من خلال استكشافه لموارده الحقيقية والذاتية الكاملة، العقلية أو الجسدية. وتتعلق هذه القدره بنسبة إتقانه وتنميته للغته الأم، أي إن أردنا وطمحنا في التنمية الحقيقية لقدرة الإبداع العلمي والروحاني العربي لن نستطيع أن نحلم بذلك طالما لم نعمل على إتقان وتطوير لغته.
فنرى ذلك في اليابان، ألمانيا والهند مثلا، حيث يحافظون ويطورون لغتهم بذكاء، في المدارس في الدراسات العليا وأيضا في مراكز الثقافة، فلا تروهم يصفقون لأولادهم بحماس ليس له مثيل اذا ما استطاعوا الغناء في لغة أجنبية، ولا تروهم يحدثون أطفالهم أمام الناس بلغة أجنبية متناسين لغتهم، بل تراهم متمسكين بوعي وبحنكة بلغتهم الأم دون أن يمنع ذلك تعلمهم بل وإتقانهم للغات الأخرى.
وأعود للفلسطيني المحصور في هذا الواقع فهل سيستطيع حقا ذلك الانسان الذكي، المثابر والمبدع أن يتطور ويصل ذروته الحقيقية في العِلْم، في الإقتصاد، في الرياضة وفِي الفن في لغةٍ غير لـغته، ودون أن يكون جزئا واضحا ومدروساً من الرؤية العلمية والثقافية للشعب الفلسطيني خاصةً وللشعب العربي عامةً؟
هل نستطيع نحن الأهل حث أطفالنا على الإبداع في الرياضات الاولومبية، دون أن نُفكر ونقرر مُسبقا من سيُمَثلون وأي علم سيرفعون؟
أو هل نستطيع حثهم في العلم والإبداع في الأبحاث العلمية دون أن ندرس معا كيف سيقدمون أنفسهم للعالم والى أي شعب سيُنتسب إختراعهم في التاريخ؟ وما هو الطريق الصحيح لدمج هذا الانتماء العربي في حياتنا اليومية؟
علينا جميعا أن ندرس جيدا هذا الطريق، كي نراه نبراساً متجلياً أمامنا وأمام أطفالنا، فلقد خُلِقنا لهذا الوجود، وليس باليد حيلة، لا سيما أننا نتشارك مع لغات أُخرى في المراكز الطبية، في أماكن الدراسة العُليا، في أماكن العمل وفِي المنشئات الحكومية، ولكننا نستطيع أيضا أن نختار.
نستطيعُ أن نختارَ بناء مجتمع فلسطيني مثقف وفعّال كلٌ في بيته اولا، في قريته وثمَ في مُدُنِه، والعمل المشترك لرفع الوعي المدروس على تطوير أنفسنا ثم تطوير مجتمعنا.
فنختار كل يوم، مستقبل لغة أطفالنا، وبأي لغة نحادثهم، وبأي لغة سنقرأ لهم قبل أن ينامون، والى أي مسرح سنأخذهم في نهاية الاسبوع؟
وما أسم الزهور والطيور التي نراها في أراضينا وتحلق في سماء بلادنا. كل ذلك الوعي كي لا يأتي يوم نفوز به بالأرض ونخسر أنفسنا واطفالنا. وما الذي يجعلني أُفكر في كل هذا؟ ما الذي يجعلني أتوق وأعزز هذا الانتماء؟ إنه الحُب يا عزيزي. فأنا أُحِبُّكَ عربياً.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net