أسيل منصور في مقالها:
تلك الضربات "غير العصرية" على الطبلة، أو لنقل "الدربوكة" على رأي الآخر، ذات الجرس التكراري البسيط وذات الإيقاع الرتيب والتي أرفقتها جيهان بكلمات عبرية سهلة هزّت بشكل فِعلي شعبين
في طريق محاربة الانصهار في طيات هوية الطرف الآخر وكنوع من أنواع صراع البقاء، من الممكن ملاحظة إهمال شامل للأغاني الشعبية المشتركة التي تعبر عن احتياجات الطرفين الموجودين على نقيض
وجود شخصية جيهان العربية المحجبة هو ما جعل من أغنية چيشم چيشم "أغنية شعبية مؤقتة"، إن جاز استعمال مثل هذا المصطلح الجديد
هدمت جيهان "المُتوقّع" وفجّرت خيمة المرأة العربية المتدينة التقليدية عبر عزفها وغنائها بكل حرية على الهواء مباشرة فجذبت انتباه الشعبين العربي واليهودي
جيهان، تلك المعلمة المبدعة التي حاولت كسر قفل سجن إطار أساليب التعليم المنهجية فعلت أكثر من ذلك بكثير، فعبر استعمال آلة موسيقية أولية، بدائية وعتيقة جِداً تكاد تمتد جذورها إلى بداية الخليقة ويكاد يساوي عمرها عمر الحضارة الإنسانية، عبر ذلك، أيقظت جيهان بفعلتها الكثير من "العفاريت" المنسية.
تلك الضربات "غير العصرية" على الطبلة، أو لنقل "الدربوكة" على رأي الآخر، ذات الجرس التكراري البسيط وذات الإيقاع الرتيب والتي أرفقتها جيهان بكلمات عبرية سهلة هزّت بشكل فِعلي شعبين، ذَوَيْ وجهين حضاريين مختلفين، يحاول كل منهما، منذ قيام الدولة، وبصورة مكثفة، النجاة بنفسه حتى لا ينجح أحدهما بالتأثير على الآخر وسلب هويته منه لدرجة أنّ هذين الشعبين نسيا تطوير الجانب الشعبي لدى كل منهما.
تعتبر الأغنية الشعبية من أهم مميزات الشعوب وهي ترتبط بشكل وثيق بأصل كل شعب وبيئته الخاصة، وتعبر عن القضايا التي تشغل روح عامّة الشعب وبالأخص الطبقة الكادحة منه وتمتاز الأغنية الشعبية بإيقاع موسيقي أحادي الجرس وبكلمات لكاتب غير معروف وتكون شائعة جدا وسريعة الانتشار كالنار في الهشيم بين أبناء شعب معين. وقد تلجأ الشعوب الإنسانية لمثل هذا النوع من الفن لحاجتها عن التعبير عن متاعبها وكنوع من أنواع التنفيس عن الهموم التي يحياها كل شعب.
في طريق محاربة الانصهار في طيات هوية الطرف الآخر وكنوع من أنواع صراع البقاء، من الممكن ملاحظة إهمال شامل للأغاني الشعبية المشتركة التي تعبر عن احتياجات الطرفين الموجودين على نقيض، بحيث لم نسمع عن أغنية شعبية تُعَبّر عن الجارين العربي واليهودي، اللذان يسكنان جنباً إلى جنب في حيفا وعكا ويافا والقدس، وذلك حتى أتت جيهان وغنّت أغنية "چيشم، چيشم" فماذا فعلت جيهان حقّاً، خاصة بعد أن حققت مقابلتها التلفزيونية في برنامج أخباري عبري ذائع الصيت نسبة مشاهدة عالية من الطرفين العربي واليهودي في إسرائيل ؟
وجود شخصية جيهان العربية المحجبة هو ما جعل من أغنية چيشم چيشم "أغنية شعبية مؤقتة"، إن جاز استعمال مثل هذا المصطلح الجديد، والتي تربط لأول مرة بين اليهودي والعربي في إسرائيل وذلك لأن دمج شخصية جيهان العربية المسلمة المحجبة والتي تمثل العربي الملتزم بتقاليده مع كلمات أغنية عبرية شكّلت جسراً ربط بين الشعبين بصورة أو بأخرى فشاع انتشار الأغنية ولاقت رواجاً واسعاً في المجتمعين . إنّ هذه الظاهرة الاجتماعية تعبّر عن مدى تعطّش هذين المجتمعين إلى ما يعبر عنهما وعن "عوائد" محاولة التعايش الصعبة جدا والتي يكابدها الطرفان في إسرائيل.
من جانب آخر، هدمت جيهان "المُتوقّع" وفجّرت خيمة المرأة العربية المتدينة التقليدية عبر عزفها وغنائها بكل حرية على الهواء مباشرة فجذبت انتباه الشعبين العربي واليهودي، فمن جهة تفاجأ الشعب اليهودي بمواجهة نموذج يكسر ما عرفوه عن المرأة العربية النمطية التي غالبا ما تلتزم الصمت، ولا تتقن العبرية ولا تكلم الرجال وغيرها من المميزات التي تعشش في صورة العربية عند الآخر والتي سببها أفكار مسبقة بُنِيت على أساس واقع قديم.
من جانب آخر، لم يستطع الجانب العربي في تقبل تجديد جيهان وخروجها عن حدود المقبول من الانضباط "المتوحد" والذي يمنع معلماتنا وغيرهن من استعمال و استخدام الموسيقى والعزف كأسلوب تعليمي غير منهجي فالنظرة الغالبة هي ضرورة الالتصاق بالجدية في التعليم كطريق لتحقيق إنجازات وإنّ من الصعب على العربي التقليدي أن يلجأ لشيء مثل الغناء والذي يرتبط بالمجون في العقل اللاواعي عنده كأسلوب تعليمي فرأينا أنّ رفض العرب لمثل هذه الظاهرة وانتشار الكليبات المسيئة ومحاولة الكثيرين السخرية مِن مثل هذا الأسلوب هَدَف لكبح محاولات مستقبلية مشابهة .
إن تعقيد المجتمع العربي اليهودي الإسرائيلي ليس بجديد ولكن من فترة لأخرى نجد شواهد على مدى هذا التعقيد مثل ظاهرة "چيشم، چيشم"!!
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net