إبراهيم صرصور في مقاله:
لو كان (الاخوان المسلمون) كما يزعم المتطاولون على العمالقة يحرصون على السلطة والحكم بكل ثمن لما ابقوا حجرا على حجر في مصر
من المعلوم من الحقيقة بالضرورة ان العسكر ما حكموا بلدا وإلا وجروا عليه الويلات وما حكمت السلطة المطلقة في دولة إلا وتحولت إلى مفسدة مطلقة
لم أر هجوما منسقا غربيا – عربيا (وانا لا اعمم طبعا فما زالت هنالك قلة عاقلة) على تركيا الماضي (الخلافة العثمانية) والحاضر (حكومة العدالة والتنمية وعهد أردوغان)، كما رأيت في الفترة الأخيرة.
زاد عجبي كثيرا عندما لاحظت ان انفجار هذه الحملة المسعورة والمنفلتة جاء متزامنا مع فشل محاولة الانقلاب التي قادتها عصابة من الخونة في الجيش والقضاء ومؤسسات الدولة المختلفة في تركيا، والتي لو نجحت – لا سمح الله – لأعادت تركيا إلى عصور الظلام التي عرفتها في ظل الحكومات الانقلابية العسكرية منذ العام 1960 وحتى عام 1997.
اصطبغت صفحات الجرائد والمجلات ومواقع التواصل الاجتماعي محليا وإقليميا وعالميا، بالسواد، وكأنها في (بيت عزاء)، وَتَحَوَّلَتْ المقالات والتحليلات واللقاءات فيها إلى أشبه ما يكون (بخطابات اللطم) في (مجالس اللطم) عند بعض الفرق. كما وَضُخَّ في الفضاء الإعلامي كَمٌّ هائل من السموم، ما كنت أتوقع في أسوأ احلامي أن تكون بهذا العنف والعداء السافر الذي تخلى أصحابه عن أبسط قواعد اللياقة والدبلوماسية، وكشروا عن انياب العداء لتركيا شعبا وقيادة، تاريخا وحاضرا، تخيلت معه ان دفاع تركيا عن ديموقراطيتها وحريتها وإرادة شعبها، ووحدة ترابها، وإنجازاتها الفلكية في عالم الاقتصاد والتقنيات والبنى التحتية والصناعة والزراعة وغيرها من مجالات الحياة، إضافة إلى رعايتها لهوية تركيا الإسلامية المعتدلة والتعددية في ذات الوقت، إنما هو جريمة عند هؤلاء الغوغاء وإن امتلكوا ناصية صناعة القرار، وتحديد بوصلة الوجود، وإن ادَّعوا زورا وكذبا انهم وحدهم مصدر الالهام للديموقراطية والحرية في العالم، ومأرِز الأحرار وموئل الثوار.
اختلط في هذه الحملة الحابل بالنابل كما تقول العرب. فالغرب، أعني أوروبا وامريكا، دخلوا المعركة ضد تركيا شعبا وقيادة من ثَقْبِ ما ادعوه باطلا (المس بحقوق الانسان)، والمبالغة في اتخاذ الإجراءات ضد مجرمي الانقلاب. نسي هؤلاء ما اتخذته بعض دول أوروبا مؤخرا من إجراءات صارمة بعد تعرضها لبعض العمليات الإرهابية التي أوقعت العشرات من القتلى والجرحى، طالت هذه الإجراءات بعضا من الحريات التي تفاخرت أوروبا وامريكا بها على مدى قرون من الزمن. هذا بالإضافة إلى اعلان حالة الطوارئ في بعض الدول، والتي تعني إجراءات استثنائية تلغي منظومة كاملة من الحريات، وتفرض حزمة شرسة من القيود تصل في بعض الأحيان إلى الاعتقال الاحترازي، وحتى التنصت إلى المكالمات الخاصة. كل ذلك من اجل عيون (الأمن) و (الاستقرار)، وصون الديموقراطية وحمايتها. لن ننسى طبعا التحول الجذري في هذا الشأن الذي مَسَّ القيادة الامريكية (بجنون البقر) بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والذي تجاوزت فيه أمريكا (ام الديمقراطيات) إجراءاتها الداخلية التي حولت أمريكا إلى (بلطجي) الحارة، إلى اعلان الحرب على دول مستقلة وإسقاط أنظمة والاطاحة برؤساء دول (أفغانستان والعراق كمثل)، وقتل مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء في هذه الدول، وزرع الخراب في ربوعها ثأرا لبضع مئات من ضحاياها.
لا يغيب عنا ونحن نناقش الهجمة غير المبررة على تركيا، هذا النفاق الأوروبي والأمريكي الصارخ إلى السماء وتباكيها على ما تسميه كذبا (حقوق إنسان) لمجموعة من القتلة الذي خططوا للانقلاب على الديموقراطية وإرادة الشعب التركي، في الوقت الذي ترى إبادة شعب تتم فصوله الدموية في سوريا امام سمع وبصر هذه الدول، فلا تحركها الدماء النازفة، والاشلاء الممزقة، والدمار الشامل للعمران والحضارة، ولا يستثيرها ملايين المشردين ومئات آلاف المعتقلين والمعذبين، ولا أنات الهائمين الذي تقصفهم طائرات الأسد وبوتين وايران، وتذبحهم ميليشياتها الطائفية الحاقدة.
نراهم امام جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية هذه (وليس مجرد انتهاك لحقوق الانسان)، لا يزيدون على ان يعبروا عن قلقهم وانزعاجهم مما يحدث، ودعوتهم الأطراف في مساواة حقيرة بين الضحية والجلاد، إلى تجنب المس بالمدنيين، وهم يعلمون أن الضحايا من المدنيين هم من (أهل السنة) الذين يحاربون عن اعراضهم، ويدافعون عن حقهم الأصيل في الحرية والانعتاق من نظام بشار الأسد القاتل والمستبد والفاسد.
يُقال مِثْلُ ذلك في مصر وجرائم انقلاب السيسي وانتهاكه الصارخ واليومي لحقوق الانسان اعتقالا وسحلا وقتلا وحصارا ومصادرة للأموال والممتلكات، وتكميما للأفواه ومطاردة للأحرار، وتجفيفا للحريات، وتجريفا للحقوق الفردية والجماعية، الى غير ذلك.. وكذا في اليمن وليبيا، وفي موقف هذه الدول من المذابح ضد المسلمين التي تنقلها شاشات العالم حية على الهواء، والتي ترتكبها أنظمة مجرمة كحكومة أفريقيا الوسطى وحكومة ميانمار وغيرها.
إن استغباء بعض الدول ألأوروبية والإدارات الأمريكية لشعوب المنطقة بلجوئها إلى الحديث الكاذب عن حقوق الانسان لمجموعة انقلابية مجرمة في تركيا، في الوقت الذي لا تحرك ساكنا حيال عمليات الإبادة التي تنفذها أنظمة دموية في عالمنا العربي وفي العالم، ثم تحسب ان شعوبنا يمكن ان تصدق هذا الهراء، فهي واهمة.
هذا على المستوى الأوروبي والامريكي، اما الحديث عن ردود الفعل العربية حيال محاولة الانقلاب الفاشلة فهي أعجب من العجب.
هنا تفتحت قرائح العرب وخصوصا القوى العلمانية أحزابا وأفرادا، مثقفين ورعاعا (وانا لا اعمم)، وأنظمة عميلة، وإعلام عاهر، فقالت في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وفي الرئيس أردوغان وحكومته، وفي تركيا الماض والحاضر، مقالة ما سمعنا بها في الأولين، فكشفوا بذلك عما بقي مستورا من وجوه شائهه ونواصٍ بائسة.
لن أزعج ادمغة حضرات القراء المحترمين بما قال هؤلاء وأولئك، لكني أراني ملزما بمناقشة فِرْيَةٍ استغل البعض اللغط الذي دار في الفترة الأخيرة حول أحداث تركيا، ليطعن في تركيا التاريخ والحضارة والإسلام، في محاولة يائسة لإسقاط الدولة الإسلامية الأقوى والديموقراطية الوحيدة في عالمنا الإسلامي، وكأني بهم ألفوا الرضاع من ضرع الانظمة العربية والإسلامية الفاشلة الآسن، فلا يقووا على الفطام منها بعد ان ادمنوا عليها. لذلك تراهم يُهَشِّمون كل مرآة صافية تريهم وجوههم الحقيقية إن نظروا فيها مقبلين غير مدبرين. غايتهم في ذلك أن يظل الجميع غرقى فيكونون سواء.
أما ان تتمرد تركيا شعبا وحكومة على هذا اللامنطق، فتلك جريمة منكرة لا بد من مواجهتها والكيد مع كل الأعداء حتى إفشالها، فجاءت ردود فعلهم صحفية كانت او سياسية او فكرية، وما حشوَها به من تُهم متهافتة لأردوغان والاخوان وحماس وكل إسلامي على وجه الأرض، اقرب الى نسج الخيال اللاعلمي منها الى واقع الحال وحقيقة الواقع، وادنى الى (التشقيع) منها للنظر الصحفي المتجرد عن الهوى .
بلغ (تشقيعهم) ذروته في قضيتين اثنتين . الأولى، حينما اتهموا الدولة العثمانية (بالاستعمار !!!)، محاولين بغباء وخبث اسقاط هذه الفرية على الدولة التركية الحديثة وباني نهضتها الجديدة الإسلامي (أردوغان) وحزبه، بهدف دق إسفين مسموم بين العرب والأتراك تعزيزا لحلمهم القديم في تنحية الإسلام عن مسرح الحياة واستبداله بأوهام أفكار جَرَّتْ على أمتنا منذ نشأت الويلات والهزائم والنكبات. والثانية، عندما عقدوا مقارنة " غير بريئة " ابدا في الحد الأدنى، بين اردوغان والاخوان (محمد مرسي) وحماس من جهة، وبين البغدادي وجرائمه و (خلافته المزعومة) والتي نسفها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في بيانه الشهير نسفا، حتى جعلها قاعا صفصفا لا ترى فيها عِوجا ولا امتا، من جهة أخرى، فَخَيَّلوا من "سِحْرِهم" للقارئ ان الزعماء الكبار الذين ذكرت، ليسوا اكثر من (بغدادي) كبير أو صغير، ولكن بمكياج حَجَبَ "حقيقتهم !!!"، فارتكبوا بذلك خطيئة أخلاقية ومهنية ما توقعت ان يقع فيها من فيه ذرة من عقل راجح ونظر ثاقب.
الادهى من ذلك كله أنهم جعلوا من (هدف الوصول الى السلطة ومواقع القرار) هدفَ كلِّ من وضعوا في سلتهم المتهالكة، كما لو كان الوصول للسلطة جريمة منكرة ورجسٌ من عمل الشيطان، وكأنَّ الدول الأكثر ديموقراطية في العالم لا يسعى احزابها وسياسيوها الى السلطة ومواقع اتخاذ القرار كسِمة من سمات المجتمعات الحية، ونسيت ان السعي للسلطة بالطرق المشروعة وبالأدوات الديموقراطية صفة أصيلة من صفات الدول المتقدمة..
لقد ارتقى أحد هؤلاء الإعلاميين مرتقى صعبا، حينما ادعى زورا وبهتانا أن " أحزاب التيار الإسلامي سواء كانوا من الإخوان المسلمين، أو يتبعون ولاية الفقيه، أو يحكمون تركيا العلمانية السنية، أو إيران الشيعية المغلقة، وسواء كانوا في غزة أو القاهرة، أو يقودون الثورة في سوريا أو اليمن أو ليبيا أو الصومال أو العراق، فالجذر واحد والهدف واحد وهو الوصول إلى السلطة والتحكم بسلطة اتخاذ القرار، لا يؤمنون بالتعددية ولا يقرون بتداول السلطة، ويغيرون ويبدلون في مواقفهم وسياساتهم، المهم أن يبقوا في السلطة ويحافظوا عليها، ويتحكموا بمفاصلها . ". وهذا - ورب الكعبة - الشطط بعينه، والبهتان بلحمه ودمه.
من المعلوم من الحقيقة بالضرورة ان العسكر ما حكموا بلدا وإلا وجروا عليه الويلات، وما حكمت السلطة المطلقة في دولة إلا وتحولت إلى مفسدة مطلقة، وما عشعش الاستبداد في موضع إلا وتحول إلى خراب لا تسمع في اجوائه إلا صراخ البوم ونواح الغراب. هذا ما حدث في تركيا منذ انقلاب اتاتورك على الخلافة، مرورا بانقلابات العسكر في السنوات 1960، 1971، 1980، 1997، والتي حولت تركيا إلى دولة متخلفة وفاشلة.
لما تخلصت تركيا من هيمنة العسكر منذ وصول حزب العادلة والتنمية ذو التوجه الإسلامي بزعامة (رجل طيب أردوغان) في العام 2002 عبر صناديق الاقتراع وفي انتخابات نزيهة وديموقراطية حقيقية، بدا صعود نجم تركيا الحديثة، وبدا العد التنازلي لحقبة الانقلابات العسكرية.
إن فشل محاول انقلاب 15.7.2016 بسبب الوقوف الموحد للشعب التركي بكل مكوناته السياسية والشعبية والرسمية، في مواجهته، يصب في رصيد (اردوغان) وتيار الإسلام السياسي كما يسميه البعض، الذي أسس لديموقراطية حقيقية وتنمية عميقة وتطور مذهل، جعلت من الشعب التركي كله من الموالاة والمعارضة يقفون كالبنيان المرصوص حتى اسقاط الانقلاب، ويستمرون في اعتصامهم في الميادين صونا لإرادتهم ودفاعا عن حريتهم. السؤال الذي يطرح نفسه : لماذا لا نعترف أن الوحيد الذي حقق استقلال تركيا الثاني بامتياز هو الإسلامي (أردوغان) وليس غيره ؟
مثل ذلك يُقال في الاخوان المسلمين الذين وصلوا مواقع القيادة التنفيذية والتشريعية في مصر عبر صناديق الاقتراع في انتخابات ديموقراطية حقيقية اعترف العالم كله بنزاهتها، هي الأولى من نوعها منذ انقلاب ناصر العسكري وثورته المزعومة التي ما جَرَّتْ على الامة الا الخراب والدمار والهزائم والذل خارجيا، والاستبداد والظلم والفساد والانحطاط الأخلاقي داخليا، كما جاء في كتاب محمد نجيب (كنت رئيسا لمصر).
لو كان (الاخوان المسلمون) كما يزعم المتطاولون على العمالقة يحرصون على السلطة والحكم بكل ثمن، لما ابقوا حجرا على حجر في مصر، ولردوا على عدوان الانقلابيين الدمويين ولو من منطلق الدفاع عن النفس والشرعية الدستورية . اما وقد اختاروا (ثورتنا سلمية، وسلميتنا اقوى من الرصاص) بالرغم مما يواجهونه من جرائم الانقلاب مما لا يخفى على أحد، لهو اكبر رد على هذه الادعاءات.
فما الذي يدعو هؤلاء وأولئك إلى شن هذه الحرب الضروس على الإسلامي (أردوغان) ومن خلاله على الإسلاميين حيثما وجدوا وفي قلبهم (الاخوان المسلمون)، بالرغم من انهم أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك انهم الأكثر ديموقراطية وانفتاحا وحرصا على التعددية وتداول السلطة السلمي عبر اداته الوحيدة (صناديق الاقتراع) ؟
ليس الحرص على الديموقراطية طبعا، ولو كان ذلك، لما جاز لهؤلاء منطقا وعدالة إلا ان يحملوا أردوغان والاخوان على الاكتاف. الحقيقة التي لا ينكرها احد، ان هؤلاء يكرهون الإسلاميين إما لكرههم للإسلام الذي يسعى لإقامة مجتمع العدل والفضيلة، وإما لشعورهم بالدونية والنقص تجاه الإسلاميين وهم يرون تقدمهم في كل ميدان، وانتصارهم في كل معركة ديموقراطية حقيقية، مما يؤهلهم ليكونوا في الصدارة دائما، وهذا طبعا ما يؤرق هؤلاء. فما ذنبنا نحن الإسلاميين؟!!!
الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net