لو أمعنَّا النظر في مجال العلوم الحياتية، سنجد أنّ لكل فِعْلٍ ردّ فعل، ولكل محصلة سبب، وأنّ أي تجربة تُجْرى على يد أي عالم، ناشئا كان أم متخصصا مخضرما كبيرا،سيكون لها نتيجة تدلُّ الباحث على صحّة أو سوء تفكيره والذي أوحى له ببناء التجربة في الأصل،كما وتعمل النتيجةَ، سلبية كانت أم إيجابية كقاضٍ يَحكُمُ لصالح أو ضدّ التجربة مِمَّا يعطي الباحث طرف خيط يساهم في استمرارية البحث ويشجّعه على إجراء تجارب أخرى أو يقنعه بالتوجه لمجال بحثي آخر.
في المقابل، ولو تأمّلنا مجريات الأمور في عالم الأدب، سنرى أنّ ما يحدث فيه ليس بعيدا عمّا يحصل في العلوم الحياتية. ففي الأدب، يقوم كاتب معيّن بالقيام بتجربة فيكتب نصًّا أدبيا. إلّا أنّ الفرق بين ما يحدث في مجالي البحث العلمي والأدب، هو أنّ في الأخير، ستتمخّض التجربة عن نتيجة فقط عبر تدخّل خارجي وتقييم من متخصّصين، وأقصد بهم النقّاد.فإذا حَصَلَ وعانى المجتمع من أزمة نقص في النقّاد، فإنّ مستقبل الأدب الذي ينقد المجتمع سيكون في خطر.
أذكر عندما كنت في خِضّم دراستي في الجامعة اخترت عدة مساقات في موضوع علم النفس العقلي، فكان جُلّ التركيز فيها على بناء جيل النقّاد القادم وتزويدهم بأدوات النقد، فهل يا ترى يحصل هذا في أقسام التخصصات الأدبية المختلفة، أم أنّ على كل من يرغب بالتخصص في مجال النقد الأدبي أن يجتهد بنفسه فيبحث في الموضوع بذاته، وهل تنبع ثقافة معظم النّقّاد القلائل في البلاد من استقراء مستقلّ لنظريات النقد المعاصرة في زمن يحصل فيه تهميش لموضوع يوازي الأدب أهمية وشأنا.
وقد يتساءل أحدهم كما تساءلت بنفسي عن الأسباب التي تقف وراء عدم إسهام النقّاد القلة في وسطنا العربي في بناء مستقبل الأدب الفلسطيني المحلي عبر تقديم أدباء جدد يناضلون لإسماع أصواتهم بدلا من لَوْكْ متكرر للماضي وكُفْر مطلق بالقدرة الإبداعية لدى جيل اليوم من الكتّاب.
وأودّ أن أجيب عن السؤال الأخير عبر تسليط الضوء على أديب روائي شاعر وناقد مصري معروف هو إدوار الخرّاط (1926-2015) والذي أبقى لنا فيما أبقى من إرث، قائمة بأدباء مرموقين لم يكونوا ليظهروا لولا تقديم الخرّاط لهم بحماس عبر نقد أعمالهم الأدبية في وقت لم يعرفهم به أحد. ويُعَرّف ڤولتير الناقد المتميز فيقول " الناقد الممتاز هو الفنان الجزيل العلم، الغزير الذوق، البعيد عن الغرض والحسد، ولكن هذا يصعب وجوده". وإذا رجعنا إلى دور الخرّاط في احتضان المواهب الناشئة، سنجد أنه بفعله قد غَيَّب ذاته، وأبعد عن حبّ النفس، ونقد من منطلق إيمانه بأنّ عليه أن ينفع مجتمعه وأبناء مجتمعه بعلمه ومن منطلق شعوره بأنه مدينٌ للوحة الأدب بإضفاء ألوان جديدة عليها تنعشها وتجعلها تواكب اتجاهات الفن المعاصرة.فأين نحن من نقّاد كالخرّاط، رحمه الله، والذي فهم دوره في توسيع رقعة الأدب، وضمّ روّاد جدد لها بل وكان عنوانا معروفا لكل أديب ناشئ يرغب في عرض ما كتب أمام قاضٍ مخلص لقضيته، مقتنع بهويته ، داريا بأهمية أحكامه، في نسج مستقبل الأدب الذي يعتبر لبنة من لبنات بناء الحضارة.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net