رغم بلوغه الخامسة والسبعين من العمر وانحناء ظهره الى الامام بشكل يجعل كتفيه بموازاة رأسه اثناء سيره، رغم قصر قامته وصلابة عوده، ورغم حركته الدائمة التي لا تتوقف اثناء العمل واثناء السير الطويل بين الحارات والشوارع لتسويق بضاعته التي لا يمكن لنساء قريتنا من الاستغناء عنها الا ان أبا حسين ما زال نشيطا ومثابرا في عمله يتحدى بذلك زمانه وزمان غيره كأنه في العشرين من عمره.
ازداد نشاط أبا حسين في الآونة الأخيرة بشكل لافت، فهو لا يترك حارة او شارعا وحتى زقاقا في أصغر واضيق احياء القرية الا ويصلها صوته الرزين الواثق والمميز، فصوته يختلف عن جميع أصوات الباعة التي تدخل البيوت دون استئذان، وهي كثيرة ومتشعبة ومتنوعة حسب الفترة الزمنية وحسب العرض والطلب.
يرتدي أبو حسين جاكيته الأسود الطويل الداكن، تتدلى اطرافه السفلى الى الامام بسبب قصر قامته وانحناءة ظهره، فتغطي جزءا كبيرا من بنطاله الواسع الذي يرفعه حتى اعلى الوسط، ويطوي اكمامه من الأسفل نظرا لقصر قامته، يحمل سلة بلاستيكية شبكية صفراء اللون ترتفع عن الأرض عشرة سنتيمترات او يزيد قليلا، في داخلها قطعة جلدية بنية اللون، ملفوفة بشكل مستدير بعناية فائقة.
ينظر أبو حسين الى السلة ودون ان يتوقف عن سيره، يرفع راسه، وهو ينادي بأعلى صوته الرنان المبحوح، فتخرج الحروف من أعماق حلقه ومن مخارجها الصحيحة وبموسيقى تجعلك تنصت اليه مرغما:
سكاكين ..... سكاكييييين.
يصمت للحظات ثم يعود على بدء كأنه أسطوانة مشروخة:
سكاكين ...... سكاكييييين.
التفتت ام علي الى زوجها ونظرات الاستهجان والاستغراب بادية في عينيها الجاحظتين الحائرتين، كأنها تبحث عن تفسير فوري لما تسمع، وانطلقت على عجل نحو شرفتها المطلة على الشارع العام لتتأكد من حقيقة ما تسمع، عادت بالسرعة نفسها وهي تضرب يدها اليمنى الموضوعة على صدرها بيدها اليسرى لتزيد من دهشتها واستغرابها وهي تقف امام أبا علي الذي لم يعرها ادنى اهتمام، حيث اخذ التلفزيون المفتوح على قناة الميادين جميع حواسه وتركه يضرب اخماسا بأسداس وهو يحلل الاخبار التي تتوافد عليه تباعا، لا تترك له مجالا لالتقاط أنفاسه وتصحيح مسار عقلة وتحليله للسياسة بشكل صحيح. ما سمعته ام علي للتو لا يمكن السكوت عليه او المرور عنه مر الكرام ويجب على أبو علي ان ينتبه فقالت تخاطبه:
_ سمعت أبو حسين شو بنادي ؟!.
لم يجب أبو علي رغم انه سمع صوت أبا حسين يملا سماء الحارة، ظنه في البداية صوت المراسل الذي ينقل الاخبار في التلفزيون من موقع الحدث وهو يتحدث عن عمليات الطعن بالسكاكين، فلم يعر ما يحدث بالخارج أي اهتمام، فأكملت ام علي الحديث كأنها تخاطب نفسها متجاهلة عدم اهتمام أبو علي بالموضوع:
_ الله يشحرك يا أبو حسين، هذا مفكر الدنيا فالتي، إذا سمعه البوليس او الجيش ليقوسوه على المحل، وما حدا يسال عنه، ويعتبروه إرهابي أبا عن جد.
اختلط كلام ام علي مع ما يقوله المذيع في التلفزيون:
"أطلق جنود الاحتلال النار على فتاة من داخل الخط الأخضر في مدينة العفولة اثناء محاولتها طعن أحد الجنود بالسكين ".
"أعلن مراسلنا ان شابا يهوديا في العشرين من عمره قام بمحاولة طعن شاب اخر يمر في المكان ظن انه عربي وبعد التحقيقات ثبت انه يهودي، وقد ألقي القبض على الشاب وهو يخضع للتحقيق الان ".
" تم إطلاق النار على شاب قام بعملية طعن لثلاثة مستوطنين في قلب مدينة القدس إصابة أحدهم خطيرة ".
صوت أبو حسين يأتي مبحوحا من الخارج:
_ سكاكين ...... سكاكيييين
همس أبو علي لنفسه وعلى مسمع زوجته ام علي:
_ بعدين مع أبو حسين ما بكفي اللي منسمعه بالتلفزيون.
وبشيء من الحدة توجه الى زوجته :
_ يا سكينة .... اطلعي نادي على أبو حسين هذا الزلمة مش فاهم الدنيا شو صاير فيها.
فكر أبو علي قليلا باسم زوجته كأنه يكتشفه لأول مرة، قال مخاطبا نفسه، في الوقت الذي انطلقت سكينة (ام علي) الى شرفة البيت لتنادي أبو حسين:
_ سكينة ........ سك......سكين ... هاي مرتي اسمها أخطر علينا من سكاكين أبو حسين.... هه ..هههه .... ههه....
دخل أبو حسين متثاقلا رمى سلته الشبكية الصفراء جانب الكرسي، وضع نفسه بكل قوة على الكرسي بعد ان سلم على أبو علي، لم ينتظر طلبات أبا علي.
مد يده الى السلة اخرج منها لفة القماش بنية اللون فردها امام أبا علي وفيها عشرات السكاكين من كل الاحجام والاشكال والاوان وجميعها مختومة بختم "سمعان " العلامة الفارقة لجودتها.
بادره أبو علي بالقول:
_ الحقيقة ما بدي اشتري سكاكين، لكن حتى اخفف الحمل عنك بدي اشتري سكينان منك يا أبا حسين، ولكن قبل هذا بدي احذرك، انت شايف الوضع يا أبا حسين هاي الدولة جنت وبقتلوا الناس عن اليمين والشمال وبدون سبب، كثير من اللي ماتوا ما معهن لا سكين ولا حجر، وانت اذا بمسكوك او بسمعوك تنادي سكاكين .. سكاكين، رايحين يقتلوك، ويمكن يعتبروا أنك مصدر التموين بالسلاح المهم.
_ انا ببيع سكاكين قبل ما تخلق هذه الدولة، وهذا مصدر رزقي وما بستغني عنه، وبعدين شو انت شايفني شركة لوكهيد والا شركة بوينغ لبيع الأسلحة الفتاكة، وهذه الشركات ما حدا بحاسبها بدهن يحاسبو واحد مثلي يا رجل، شو انا ببيع صواريخ والا مدافع، العمى في قلوبهن يتركوا هالناس تعيش بحالها، وكيف ما بدها، والمشاكل بتزول لحالها، بدكاش تشتري اتركني امشي يا أبا علي وشكرا الك.
لم يرد أبو علي، فكر بكلام أبا حسين، بالأحداث التي تتوارد ساعة بعد أخرى، بهبة شعب يرزح تحت الاحتلال، بأطفال يموتون لأنهم عرب لأنهم يقاومون احتلال مجرما ويتصدون للعنصرية والحقد الأعمى للمستوطنين، يبدو انه مثقف ويفهم في السياسة وما يدور حوله وهو صادق بكل كلمة قالها. ما ذنب أبا حسين إذا كانت هذه الدولة مجنونه وتقتل الناس لأتفه الأسباب، بينما هو غارق بتفكيره وصوت أبو حسين يبتعد رويدا رويدا وهو ينادي:
سكاكين ..... سكاكييين
في اليوم التالي وفي الساعة العاشرة صباحا، طلب أبو علي من زوجته سكينة ان تسكت حتى يسمع نشرة الاخبار الجديدة من الراديو، في حين كانت تكلم ابنهم الذي يتعلم في تل ابيب وتقول له:
_ لا تتكلم العربي هناك يا ابني يمكن يقتلوك احكي مثلهن يما كثرانه المجانين بهاي الدولة يمكن واحد يغدرك.
_ صرح الناطق بلسان الشرطة انه تم القاء القبض على الممول الرئيسي للإرهاب والذي يقوم بمد المجموعات الإرهابية بالأسلحة التي يستعملونها لطعن المواطنين. وصرح رئيس الحكومة ان هذه العملية النوعية التي قامت بها قوات الامن تعتبر خطوة كبيرة للقضاء على الإرهاب الذي تقوم به الجماعات الإرهابية.
ضرب أبو علي كفا على كف وهو يقول:
_ والله ... هسترت هاي الدولة.
ومنذ ذلك التاريخ زادت عمليات الطعن والتصدي للمستوطنين ولكن أبو علي لم يسمع بعدها أبو حسين ينادي:
سكاكين ..... سكاكييين.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net